الإبداع السياسي بين التوصيف والتحليل!!!
تاريخ النشر : 2015-10-31 01:44

كثيرة هي الأحداث السياسية والتطورات الميدانية في قضية مثل قضيتنا الفلسطينية، ومجتمع مثل مجتمعنا الفلسطيني، الذي لا يمر عليه أسبوع أو يوم أو حتى ساعة إلا وهناك تطورات جديدة، سواء على صعيد النضال الوطني ضد الاحتلال الإسرائيلي، أو على صعيد العلاقة بين الفصائل والتنظيمات الفلسطينية، أو حتي على صعيد التطورات الإقليمية والدولية التي تلقي بظلالها على الوضع المحلي الفلسطيني الذي يشهد تطورات متسارعة ومتلاحقة، فيما يتعلق بمجمل الأحداث السياسية والاقتصادية والأمنية.

فكل تلك الأحدث والتطورات فتحت المجال أمام الجميع بالكتابة في الشأن السياسي، سواء للمتخصصين أو غير المتخصصين في العلوم السياسية، الأمر الذي يؤدي في بعض الأحيان الي طرح وجهات نظر أو مقالات أو أوراق عمل لا تمت للواقع بصلة، ولا تمت لنظريات التحليل السياسي بأي صلة؛ لأن علماء السياسة يعرفون التحليل السياسي بأنه" الفهم الدقيق لمسار الأحداث السياسية وإدراك دوافعها"، أي أن التحليل السياسي يتضمن شقين أساسيين، يجيب كل واحد منهما على سؤال رئيسي لا يمكن تصور تحليلا سياسيا بدونهم:

الشق الأول: هو الفهم الدقيق لمسارات الأحداث، وهو يجيب على السؤال الأول، ماذا حدث؟

ويقصد بالفهم الدقيق هنا سير الحدث السياسي وعدم الوقوف عند حد المعرفة السطحية، فقد يحتمل الحدث السياسي أكثر من معنى، وقد يكون ظاهره شيئاً مختلفاً عن باطنه؛ لأن مسار الحدث ليس المقصود به اللحظة الراهنة للحدث، أو صورته الأخيرة الظاهرة فقط، بل المقصود به المعرفة والإلمام بالجزء التاريخي، والوقائع الراهنة ذات الارتباط، بالإضافة إلى الإدراك الجيد بطبيعة الشخصيات والدول الفاعلة ذات الصلة بالحدث أو الظاهرة السياسية محل الدراسة أو التحليل، فكل تلك العوامل يجب أن تؤخذ بالحسبان.

والشق الثاني: يتناول إدراك الأسباب الدافعة لهذا الحدث، ويجيب على السؤال الثاني، لماذا حدث؟ وهنا لا يقف المحلل عند الدوافع الظاهرة فقط، بل يعتني بها بداية، ومن ثمَّ يذهب ليبحث عن الأسباب الأخرى الخفية، التي ربما لا يدركها غير المتخصصين والعارفين بأصول التحليل السياسي، فالإدراك مرحلة تفوق مرحلة العلم والمعرفة، كون مرحلة الإدراك تفيد الإحاطة والشمول بكافة الأسباب والدوافع الممكنة والمحتملة وعدم الركون إلى بعضها فقط.

وهذا الحديث عن الأسباب والدوافع يقودنا إلي الحديث عن مدراس التحليل السياسي، التي تركز كل مدرسة فيها على قضية محددة تنطلق منها في فهمها للظواهر السياسية وتكون أحد الركائز الرئيسية في تحليلها السياسي، ومن تلك المدارس:

أ‌-       المدرسة الأيديولوجية:

هناك من المحللين من يتناول الحدث السياسي تحليلاً في ضوء مدرسة أيديولوجية محددة وفق رؤية يؤمن بها ويعتقدها، فمثلاً المحلل السياسي الذي يؤمن بأن الصراع الديني هو الذي يحرك التاريخ والذي يقف وراء كل حدث، نجده يشخص كل نزاع سياسي بين طبقتين أو دولتين على أنه صراع ديني، يجد في هذا التحليل مفتاح للدخول إلى مغاليق الحدث وتفسيره، لذلك تجد أصحاب تلك المدرسة الِّدين حاضٌر لديهم في تفسير الظواهر والاحداث السياسية، وكان من رواد هذه المدرسة "ماركس وانجليز" الذين آمنوا بأن العوامل الاقتصادية والصراع الطبقي هو الذي يقود التغير في المجتمعات وفق هذه المدرسة.

ب- ـالمدرسة القومية:

تقوم هذه المدرسة بتحليل أية ظاهرة أو حدث سياسي من خلال المنظور القومي، التى ترى أن القومية هي جوهر الصراع، أو هي التي تطبع حقيقة الصراع في العالم، فهناك قوميات في العالم كثيرة، ويكثر فيما بينها الصراعات حول قضايا متنوعة ومتعددة . ويرى أصحاب تلك المدرسة أن المحصلة النهائية للتاريخ في أي لحظة من لحظات مسيرتها الطويلة هي حصيلة التنافس والنزاع والتسابق بين هذه القوميات وفق رؤية هذه المدرسة

ج-ـ المدرسة الواقعية:

هذه المدرسة تؤمن بأن الواقع هو المصدر الأول والأخير في التحليل السياسي، فرواد هذه المدرسة لا يركنون إلى سبب واحد في التحليل، بل هناك جملة من العوامل الواقعية التي تفسر وتعلل وتكشف الأسباب والدوافع وراء كل ظاهرة سياسية .

فلا يستبعد أصحاب تلك المدرسة دور الفرد والتاريخ في اتخاذ القرار السياسي، وفي فهم الحدث السياسي، والظاهرة السياسية، وغيرها من موضوعات التحليل السياسي المطروحة، ولا يستبعدون دور الذكريات بين الدول والشعوب والقوميات والأديان والمذاهب المسئولة عن الحدث السياسي وتعميقه.

والحديث عن مدراس التحليل السياسي يقودنا أيضا الي الحديث عن الكتابة السياسية، لأن الكتابة السياسية لها عدة أنواع ومدراس كما هو الحال بالنسبة لمدراس التحليل السياسي، ويمكن تحديد أنواع الكتابة السياسية في الأنواع الثلاثة التالية:

النوع الأول/

الكتابة التاريخية: التي تتناول تدوين أحداث الماضي، فالتاريخ بكل بساطة هو سياسة الماضي، والسياسة هي تاريخ الحاضر، فالحرب العالمية الأولي والثانية بكل تفاصيلها السياسية والعسكرية كانت أحداثاَ سياسية وقعت في الماضي، وكانت جزءاً من سياسة رسمية لدول الحلفاء أو دول المحور.

ومن يقوم بتدون أحداث الماضي هم المؤرخون، التي تقع على عاتقهم مسؤولية كتابة تاريخ وحضارة الأمم والشعوب المختلفة، من أجل حفظها للاستفادة منها في ربط الماضي بالحاضر، ومن أجل تعريف الأجيال القادمة بالأحداث الماضية، والمؤرخون في العادة غير مهتمين بالكتابة عن الحاضر أو المستقبل نظراً لأن اهتمامهم ينصب في المقام الأول في البحث عن تفاصيل الأحداث التاريخية التي وقعت في الماضي.

النوع الثاني/

من الكتابة السياسية، وهو النوع الذي يعتمد على توصيف الأحداث الجارية بكل تفاصيلها وخباياها، وكتّاب هذا النوع من الكتابة مبدعون في توصيف الظواهر والاحداث الجارية بكل تفاصيله وأبعادها، ولكنهم لا يربطون الأحداث الجارية بالماضي أو المستقبل لأن جل تركيزهم يكون على توصيف الظاهرة من كل ابعادها بدون ربطها بالماضي أو الانطلاق منها لقراءة المستقبل.

وفي العادة أصحاب هذا النوع من الكتابة السياسية يكونوا متأثرين بمواقف حزبية أو أيدولوجية أو شخصية، ونجد منهم بعض الصحفيين والناشطين، وكتًاب الرأي، وبعض رجال الدولة، ولقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على انتشار هذا النوع من الكتابة السياسية، فأصبح الكل يكتب ويوصف الواقع سواء بلغة سليمة أو بلغة ركيكة.

أما النوع الثالث/

في الكتابة السياسية ، هو النوع الذي يطلق عليه علم الاستشراف، الذي يدرس الماضي والحاضر بكل تفاصيله وأبعاده ويعطي تصوراً لمستقبل الأحداث والتطورات السياسية.

فالاستشراف ضرب آخر من التنبؤات الذي يُعنى برصد التغيير في ظاهرة أو ظواهر معينة أو محاولة تحديد الاحتمالات المختلفة لتطويرها في المستقبل أو ترجيح أحد الاحتمالات على غيره، وهذه التنبؤات يقوم بها علماء السياسية والمتخصصين في كل فرع من فروع العلوم السياسية، وتصدر في الغالب من مراكز دراسات المستقبل العالمية ويشرف عليها أجهزة الاستخبارات في كل دولة، وفي الغالب تصدر بشكل دوري في بداية كل سنة ميلادية مبنية على أسس منهجية علمية رصينة معروفة لدى المتخصصين.

وهذا النوع من الكتابة السياسية يتم فيه الربط ما بين الأحداث التاريخية والوقائع الجارية لوضع تصوراً محددًا لطبيعة الظاهرة السياسية ومستقبله في المنظور القريب والبعيد، بهدف استشراف المستقبل والاستعداد له من كافة الجوانب والمستويات.

إن كثرة الأحداث السياسية في فلسطين والعالم العربي من جانب، وتوفير وسائل التواصل الاجتماعي مساحات واسعة للنشر والكتابة بدون اي رقابة من جانب أخر، قد فتح المجال أمام سيل كبير من الكتابة في الشأن السياسي، وظهور عدد كبير من الموصفين للظواهر والاحداث السياسية، من غير المتخصصين في العلوم السياسية، الأمر الذي أدى الي الخلط ما بين التحليل السياسي الذي يرتكز علي مجموعة من المبادئ والنظريات التي تحدد بشكل علمي مفهوم واركان التحليل السياسي، وما بين التوصيف السطحي لبعض الظواهر والأحداث، مما أوقع المواطن في حيرة من أمره، وجعله في بعض الأحيان يرفض كل المحللين ويطالبهم بالتوقف عن الكتابة والتحليل، خصوصا عندما تشتد الأحداث وتتطور مجريات الأمور وصولا إلي المواجهة الشاملة، وعندها يختلط الحابل بالنابل ويتراجع المتخصصون في العلوم السياسية لصالح أصحاب الأصوات العالية، من اولئك الذين يجدون تنميق الكلمات وتنسيقها والضرب على وتر كل قناة أو إذاعة محلية خدمة لتوجهات بعض وسائل الإعلام العربية أو المحلية بغض النظر عن مصداقية وموضوعية واقتناعه الشخصي بهذه الكلمات.