مصر والتبعات المكلفة لإسقاط الإخوان
تاريخ النشر : 2013-12-26 11:07

حين وصل الإخوان المسلمون إلى الحكم في مصر كان ذلك هو التتويج النهائي لهم بعد مرحلة و"مسيرة" طويلة استغرقت عقوداً من العمل الاجتماعي والسياسي ضمن المجتمع الذي تُرك لهم كمساحة مفتوحة للهيمنة عليه وعلى عقول الناس، حيث رسّخوا فرضية استحقاقهم الشرعي للقيادة في المجتمع وعلى مؤسساته المهنية والنقابية، وكونهم الفئة الأفضل إسلامياً، وأنهم قادمون بالتالي إلى الحكم لا محالة، هذه الفرضية بكون القوى الدينية هي البديل "الطبيعي" والشرعي للفئات الحاكمة لم تكن محل التداول والقبول عربياً على مستوى النخب والشعوب فحسب، بل كانت أيضاً فرضية غربية راسخة الأركان، ولها تنظيرها المنطلق من تصنيف المجتمع العربي ذي الطبيعة الدينية، والذي يجد ضالته في تلك الجهات التي كان يتم تمكينها اجتماعياً وإنضاجها لاستلام موقعها الذي تتوجه إليه بكل قواها .
لم يكن "الربيع العربي" بلا مقدمات، وتلك كانت إحدى مقدماته ضمن سياق من نضوج الاستخدام "المميت" للدين في يد قوى الخارج، حيث لم يكن ممكناً كسر أي دولة عربية من تلك التي يضربها العنف الأهلي والخراب والدمار الآن، والتي عادت قروناً إلى الوراء إلا بواسطة الدين والحركات والمنظمات الدينية، وكذلك الشخصيات ذات السلطة الدينية التي تمتلك السيطرة على العقول بواسطة الفتاوى وإصدارها في الأوقات السياسية ذات الحساسية القصوى، حيث يُبتغى العبور العنيف من وضع سياسي إلى وضع آخر .
إن اقتضاء اختلال التركيبة الاجتماعية والسياسية للمجتمعات العربية جراء الزلازل السياسية من خلال استخدام سلطة الدين وكونه المؤثر الأقوى الذي تجتمع عليه القلوب هو تقويض للدين نفسه، حيث النتيجة النهائية هي ألا يعود الدين مصدر إجماع ووحدة واحتكام للمجتمع، وألا يكون مصدراً للإلهام الخلقي والسلوكي للأفراد .
الدين بطبيعته هو كابح للفوضى الأخلاقية والاجتماعية في وظيفته في المجتمع، وهو مهدئ للعداوات والبغضاء ولاحم للفرقة، وتفريغه من معانيه الوظيفية نرى تبعاته في المجتمع العربي ضمن حزام الفوضى والقتل، والذي يستخدم تنوعه الداخلي كقنابل تفجير له .
بعد أن استخدم الدين كمصدر لسحب ونقض شرعية أنظمة الحكم التي أسقطت بواسطة الشعوب أو عنوة من الخارج، جعل هذا الدين نفسه أساساً للشرعيات السياسية الجديدة في ما بعد "الربيع العربي"، حيث تماهت الشرعية السياسية مع الشرعية الدينية في إحكام جديد لهيمنة وديكتاتورية القوى السياسية الناطقة باسم الدين والحاكمة باسمه .
لقد كان الإخوان يتوقعون مطمئنين بالفعل لخمسمئة عام من الحكم كناية عن ديمومته لهم، ذلك لأنهم غذوا العقول طوال عقود من الزمن بفكرة شرعيتهم السياسية وأحقيتهم المطلقة في الحكم، وذلك بناء على الدين ولما لهم فيه من أفضلية كجماعة سياسية دينية . ولذلك، فقد كانت الثورة في ال30 من يونيو/حزيران الماضي هي ثورة حقيقية بكل المقاييس لأنها نسفت أفكاراً وفرضيات من جذورها ولم تسقط جماعة دينية من على سدة الحكم وتحرره منهم، بل كانت كذلك إشارة إلى "تحرر" عقول كثيرة في الشعب المصري من الهيمنة الفكرية للإخوان والتخلص ذهنياً من وجوب حكمهم وأحقيتهم الشرعية في السيطرة السياسية بناء على تميزهم الديني كجماعة .
هذه الثورة على جماعة دينية سياسية كانت ذات أبعاد تطال الخارج وترتيباته طوال سنين وصفقاته واتفاقاته مع جماعات الدين التي ارتضاها حاكماً مهادناً للمنطقة يوثق في محدودية ما يقدمه للشعوب من مشاريع التقدم كما يوثق من سيطرته وديمومته اعتماداً على الدين أيضاً .
بقدر الحدث المدوي وفقدان الإخوان لسلطانهم السياسي والفكري والثقافي في مصر كانت تبعاته على مصر التي يوجه لها الإخوان مؤامراتهم ويملؤونها عنفاً وإرهاباً وذلك لأجل "استعادتها" كما يقولون . وهي استعادة في الحقيقة لمحاولة الهيمنة على الأذهان والعقول واستعادة السلطة الدينية على المجتمع بقدر ما هي محاولة استعادة الحكم والعرش السياسي الذي يرونه سليباً .
مصر هي البلد الأحدث في سلسلة بلدان عربية سلط عليها سلاح الدين بشكل تدميري، وهو هذه المرة بيد الإخوان يوجهونه ضد البلد واللحمة الاجتماعية والوطنية فيه بحرب على الدستور والاستفتاء عليه بالقول إنه دستور الأقلية الدينية (الأقباط) وبترويج أنه يمنع المساجد والصلاة، هذه الدعاية السامة توجه إلى الأوساط الريفية الشديدة التدين، يُذكِّر الإخوان كذلك في هجومهم العنيف على مصر ومؤسساتها على الأزهر ويحاولون تقويض دوره التعليمي والسياسي الوسطي مما يخل بالمجتمع ككل .
أما على مستوى الأعمال الإرهابية وقتل رجال الشرطة والجيش في رسالة ترويع وتهريب للمجتمع وقواه السياسية كي لا تمضي مصر إلى الأمام في العملية السياسية وكي تبقى رهينة لعدم الاستقرار السياسي والفوضى العارمة كعقاب لها على إسقاط الإخوان حيث الإيحاء أن البلد لن ترى الاستقرار بعدهم، وسيتم ابتزاز شعبها بالعنف كي لا يشارك في مراحل العملية السياسية وخارطة الطريق .
أما الرسالة الأعرض والأوسع والأخطر كذلك، كما هي في تفجير المنصورة وضحاياه فهي في قانون استحلال الدماء
بناء على "تكفير" المنتمين للدولة وشرطة هذه الدولة وأفراد جيشها .
تقوم التفجيرات على أن هؤلاء هم العدو المستحق للإعدام والموت وبأبشع صوره، إنها جبهة حرب ينشط الإخوان
بكل قوتهم لإشعالها منذ يونيو ومنذ ضياع حكمهم مستحضرين ثقافة العنف في تكوينهم الحزبي لحسم الصراع لمصلحتهم .
إنها تبعات إسقاط الإخوان التي يبدو أن مصر ستظل تعيشها لزمن قادم حتى التخلص من عنفهم كما تخلصت من سيطرتهم .
عن الخليج الاماراتية