رسالة إلى الرئيس عباس
تاريخ النشر : 2013-12-17 11:27

أمد/ رام الله - كتب هاني المصري: أعرف حجم الضغوط والتحديات التي تواجهها في هذه الأيام التي تقترب فيها لحظة الحقيقة، اللحظة التي تتخذ فيها القرارات المصيريّة.
كما أعرف أنك ترفض الأفكار الإسرائيليّة التي تبنتها الإدارة الأميركيّة من خلال طرح الجانب الأمني من خطة جون كيري تمهيدًا لطرح الجانب السياسي في تبن كامل للنظريّة الإسرائيليّة، التي طالما أرادت جعل الأمن الإسرائيلي المرجعيّة الوحيدة للمفاوضات، وأصرّت على الاتفاق على الخريطة الأمنيّة أولاً حتى ترسم خريطة الحدود على مقاسها.
عند الاطلاع على ما توصل إليه الجنرال الأميركي جون ألن يدرك المرء استحالة التوصل إلى اتفاق. فالمقترحات تتضمن الإبقاء على القوات الإسرائيليّة لفترة موقتة في الأغوار والحدود ضمن قائمة طويلة عريضة من الترتيبات الأمنيّة، التي تبدأ بأن تكون الدولة الفلسطينيّة العتيدة منزوعة السلاح، وتلتزم بعدم عقد أي معاهدات أو تحالفات مع أي دولة يمكن أن تهدد إسرائيل، ولا تنتهي بتسيير دوريات فلسطينيّة إسرائيليّة مشتركة، وإقامة وجود مرئي فلسطيني على المعابر؛ على أن يبقى القرار بالمرور بالاتجاهين بيد إسرائيل، والسيطرة على الحدود والأجواء والبحار؛ إلى أن ترى إسرائيل أن القوات الفلسطينيّة أصبحت مهيأة لتوفير الأمن الإسرائيلي ووضع نقاط إنذار وقواعد عسكريّة على رؤوس الجبال والمواقع الإستراتيجيّة.
إذا أضفنا إلى ما سبق الأمر الواقع الاحتلالي الذي خلقته الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة على الأرض، من خلال الاستيطان وجدار الفصل العنصري وتهويد القدس وأسرلتها وتقطيع أوصال الضفة الغربيّة وحصار غزة والاعتداء بشكل شبه مستمر عليها في ظل اتجاه إسرائيل أكثر وأكثر نحو التطرف، ومع وجود حكومة يتنافس أعضاؤها حتى في مجال تجاوز اللاءات الإسرائيليّة، ورفض الحلول بكل أشكالها الانتقاليّة والنهائيّة على أساس أن الواقع الحالي مناسب جدًا لإسرائيل؛ فالرهان بينهم يكون على إمكانية تدهور الوضع أكثر فلسطينيًا وعربيًا بما يتيح لإسرائيل فرض حل أكثر ملاءمة لها يحقق إقامة «إسرائيل الكاملة» من دون أصحاب البلاد الأصليين، أو بوجود أقل عدد منهم شرط إقرارهم بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية في «دولة اليهود»، وعليهم نسيان أنهم فلسطينيون والتخلي عن حقوقهم.
ما سبق تعرفه جيدًا، كما يعرفه أي فلسطيني وأي متابع للشأن الفلسطيني، ولكن يبدأ الخلاف في كيفيّة التعامل معه، فهناك من يطالب بقبول ما أسموه زورًا «التسوية» غير المكتملة والحل على مراحل، خشية من إخراج الفلسطينيين من المعادلة السياسيّة. وبهذا الطرح أصبح الاستمرار في هذه المعادلة أهم من تحقيق الأهداف التي دخل الفلسطينيون المعادلة من أجل تحقيقها، ونسي أصحاب هذه النصيحة الرديئة أو تناسوا أن ما جعل الفلسطيني لاعبًا مهمًا نضاله وتصميمه على الحصول على حقه، وما أضعفه وجعل دوره ثانويًا أنه تصور أن وقت النضال قد مضى وأن وقت الحصاد قد أزف.
إن إسرائيل لا تريد السلام ولا إعطاء الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه حتى بحدود إقامة دولة على حدود العام 1967، ولا يوجد الضغط اللازم عليها حتى تقبل بهذه الحقوق، والضغط الأميركي الممارس عليها - إذا كان هناك ضغط أصلاً - أو الذي يمكن أن يمارس حاليًا وفي المستقبل القريب على الأقل؛ لا يتعدى تطبيق اللاءات الإسرائيليّة التي تتحدث عن عدم العودة إلى حدود 67 وضم القدس وضم المستوطنات وحدود الجدار وتصفية قضيّة اللاجئين، وخصوصًا حق العودة والاعتراف بإسرائيل كدولة يهوديّة وإنهاء الصراع والكف عن المطالب.
السؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل فلسطيني هو: ما العمل، وهل هناك بديل عملي من الانخراط في هذه العمليّة والسعي للخروج منها بأحسن حل ممكن؟
الجواب عن هذا السؤال يبدأ بأن القبول باستمرار الأمر الواقع القائم حاليًا أو بما يمكن أن تخرج به المفاوضات الدائرة والمختلة، ليس خيارًا مقبولاً، وإنما هو في الحد الأدنى «انتحار سياسي»، وفي الحد الأقصى «تفريط وتخل عن الأمانة».
فأي شيء بديل عن هذه العمليّة التي تسمى «عمليّة سلام»، وما هي بذاك، أحسن أو أقل سوءًا من قبول استمرار الأمر الواقع، أو قبول إحدى صيغ الحلول الإسرائيليّة الانتقاليّة أو النهائيّة. وإذا لم يكن البديل متوفرًا فيجب بناؤه خطوة خطوة ومدماكًا وراء مدماك.
البديل يبدأ بإدراك أن المرحلة الحاليّة ليست مرحلة حلول مناسبة، فلا أحد يعطي الضعيف والمنقسم الذي ألقى بمعظم أوراق قوته على مذبح البحث عن التسوية المستحيلة. فالمرحلة هي مرحلة توفير مقومات الصمود والتواجد الفلسطيني على أرض فلسطين، والحفاظ على الحقوق والمكتسبات وإعادة القضيّة إلى طبيعتها الأصليّة بوصفها قضيّة عودة وتقرير مصير للشعب الفلسطيني كله، وليست قضيّة إقامة دولة على جزء متناقص باستمرار، وتقليل المخاطر والمخاسر وإحباط الخيارات المفضلة لدى إسرائيل وجعلها تخسر أكثر وأكثر من استمرار احتلالها وتعنتها ورفضها لكل المبادرات، تمهيدًا لعمليّة تغيير تدريجي لميزان القوى ينسجم ويقدر على الاستفادة من أي تغيير إيجابي في المنطقة والإقليم والعالم الذي يشهد متغيرات عاصفة، بحيث يمكن أن تأتي اللحظة المناسبة ولو بعد حين لفرض الخيارات المفضلة لدى الفلسطينيين.
البديل يتطلب إبقاء القضيّة حيّة والحفاظ على تفوقها الأخلاقي المنسجم مع عدالتها، وما يقتضيه ذلك من العودة إلى وحدة القضيّة والشعب والأرض، إضافة إلى الاعتراف بأن هناك حقوقًا لليهود المتخلين عن المشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني العنصري الإجلائي الاحتلالي.
إن البديل غير ممكن من دون إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة في سياق إعادة بناء الحركة الوطنيّة، وإعادة تعريف المشروع الوطني، وبلورة إستراتيجيات جديدة تعترف بالواقع القائم ليس من أجل تكريسه وإنما من أجل تغييره، وإن لم يكن ممكنًا مرة واحدة فبالتدريج، وهذا الأمر يتطلب مقاومة تنسجم مع الواقع والقدرات، وتزج الشعب كله كل حسب قدراته وظروفه، وتستخدم وسائل التحرك السياسي، بما في ذلك المفاوضات، ولكن ليس على شاكلة المفاوضات التي شهدناها حتى الآن، وإنما مفاوضات تتم في إطار «مؤتمر دولي» مستمر وكامل الصلاحيات، وعلى أساس تطبيق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة وليس التفاوض عليها.
إن الوصول إلى هذه المرحلة بحاجة إلى وقت ونضال وتدويل للقضيّة ومقاطعة لإسرائيل على كل المستويات والمحافل، واستعادة الأبعاد العربيّة والدوليّة للقضيّة الفلسطينيّة، بما في ذلك تنشيط حركة التضامن الدوليّة التي استمرت رغم كل الظروف والإهمال الذي تعرضت لها في ظل الوهم المستمر حتى الآن بأن الدولة على الأبواب وعلى مرمى حجر.
تخيل يا سيادة الرئيس لو أن أجواء الوفاق الإقليمي والدولي الحالي والمرشح للاستمرار حول الملف السوري والملف الإيراني والتراجع في الدور الأميركي في المنطقة والعالم قد جاءت في ظل وحدة وطنيّة فلسطينيّة على أسس وطنيّة وديموقراطيّة وشراكة حقيقيّة واستراتيجيات فاعلة؛ لكانت قدرة القضيّة الفلسطينيّة على الحضور بفعاليّة وتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني ستكون أفضل بما لا يقاس من الوضع الفلسطيني الحالي الذي لا يسر صديقًا ويفرح كل الأعداء.