مع الشاعر والمناضل الفلسطيني محمد علي صالح
تاريخ النشر : 2013-12-16 15:08

محمد علي صالح (أبو عكرمة) من الأسماء المهمة في التاريخ الوطني والنضالي والثقافي الفلسطيني التي لم تأخذ حقها من الشهرة والنجومية ، فظل بعيداً عن دائرة الضوء ولم ينل حقه من التركيز الاعلامي على انتاجه ، رغم انه من رعيل وجيل الشعراء الفلسطيني الاوائل الذين أسسوا لدعائم وركائز الشعر الوطني والسياسي المقاوم في فلسطين التاريخية ، أمثال : ابراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي(أبو سلمى) ، وانه كان على صلة وثيقة باقطاب السياسة والأدب في فلسطين كمحمد عزة دروزة وفؤاد نصار ويعقوب الغصين وبهجت أبو غريبة وفرحان السعدي وسامي طه واحمد الشقيري وحمدي الحسيني وأكرم زعيتر، وسواهم من قادة العمل الوطني والنقابي والثقافي في فلسطين قبل العام 1948.

يقول المرحوم محمد علي صالح في كلمة التأبين التي صاغها يوم رحيل رفيق دربه وأخيه في الرضاعة الشاعر (أبو سلمى) مستحضراً أيام الصبا والشباب : " أذكر أيام صبانا في طولكرم حينما كنا نحاول أن نشدو بالشعر ، نشدو ببواكير الشعر . كنا نسرق من ساعات اللهو من اترابنا ولاننا من الاولاد ، مرجعنا ديوان "تغريبة بني هلال " وننتحي جانباً في كروم البلدة ، وفي الكرم "القريب" على التخصيص لنقرأ سوية في ديوان التغريبة هذه ، تقرأ انت مرة وأقرأ أنا مرة أخرى ، وكنا نحاول أن نحفظ الأشعار التي في ذلك الديوان ، على ركاكتها وعدم جدوى ما فيها ، وفي احيان كثيرة كنا نقلد تلك الأشعار وننسج على منوالها ، ومضى على ذلك وقت ليس بالقصير وكنت أنت المجلي دائماً ، وكنت أنا احذو حذوك واقلد ما كنت تنظم ، وامشي على أثر خطواتك ، ثم انتقلنا الى قصة "عنترة بن شداد " فقرأناها وحفظنا أكثر ما فيها من الأشعار . وكانت تلك الأشعار ، اصح وزناَ ، واقوم سبيلاً من أشعار التغريبة .

ويضيف قائلاً : " من هنا ، من هذا المنطلق صرنا نتذوق الشعر شيئاً فشيئاً اكتسبنا ملكة النظم ، ثم اننا فيما أذكر انتقلنا الى الصحافة ، نرسل اليها ما نصوغه من أبيات وقصائد قصيرة متواضعة ، وكان دأبنا أن تنقد أنت ما أكتب ، وأعود أنا بدوري انقد ما ترسله أنت . وطال بنا الامر على ذلك بضع سنين فصرنا أكثر جراة وأشد مراساً ، هكذا أيها العزيز بدأنا رحلة الشعر ، بداناها مترافقين وجلين ، وأظن بل أذكر انك أشرت الى ذلك في احد احاديثك من راديو دمشق ".

محمد علي صالح هو والد الشاعر الفلسطيني المعروف عبد الناصر صالح ، أحد الاعلام الشعرية المضيئة في المشهد الثقافي والفكري الفلسطيني ، ولد سنة 1907 في مدينة طولكرم ، ودرس في الكلية الاسلامية بالقدس وتخرج منها سنة 1927 . انخرط في النضال الوطني والسياسي منذ شبابه المبكر ، واعتقل أكثر من 6 مرات وزج في السجن ابان ثورة 1936 وعرف كأحد المكافحين ضد الانتداب والاستعمار البريطاني ، وكاحد المثقفين الذين أناروا الطريق وساهموا في النهضة الثقافية والفكرية والتربوية والعلمية الفلسطينية ، وصياغة الوعي الوطني التقدمي الثوري وتذويته ونشره بين أجيال الغد والمستقبل ، الفلسطينية والعربية ، والمشاركة في تشكيل وتأسيس "التجمع الطلاب الفلسطيني " الذي انتخب رئيساً له .

أشغل المرحوم محمد علي صالح ريئساً لتحرير صحيفة "صدى العرب" التي كانت تصدر في شرقي الاردن وتوقفت عن الصدور سنة 1928 بأمر من الأمير عبد اللـه بن الحسين ، وعمل في سلك التربية والتعليم كمدير لمدرسة نور الدين زنكي في طولكرم حتى احالته على التقاعد سنة 1971 ، ومنذ سنوات الخمسينات انتخب عضواً في المجلس البلدي بمدينة طولكرم أكثر من مرة . وفي العاشر من آذار العام 1989 وافته المنية بعد حياة حافلة بالتضحيات وزااخرة بالنضال والعطاء والمواقف الوطنية الجذرية الصلبة . وقد أبقى وراءه مجموعة من القصائد التي لم تصدر في ديوان ، كان قد كتبها وقالها في المناسبات القومية والوطنية ، ونحس فيها بطغيان الشعور القومي والوطني والانساني في نفسه ، وباندفاعه القومي .

كان محمد علي صالح واضح الرؤى ، كتب قصائده باسلوب سلس قريب من ذائقة الناس والعامة ونبض الشارع فاستساغوه ، وعبّر بابسط الكلمات واوقعها حساً وتاثيراً في النفس ، عن الهم الفلسطيني والانساني ، وعن معاناة شعبنا الرازح تحت نير الظلم والقهر والاحتلال ، التواق والمتعطش للحرية والاستقلال ونور الشمس والفرح الدائم . انه من الشعراء الغر الميامين الذين نبغوا في قول الشعر المقفى الموزون ، وامتاز شعره بالصدق والامانة والفخر وطيب الكلمة وزخم العبارة والمعنى ووطنية النفس الطويل وجمال المركبات اللغوية ورشاقة الالفاظ الموحية .

عرف باشعاره الوطنية المناهضة للاستعمار والانتداب ، والداعية الى الانغراس والانزراع في الارض والوطن وعدم التفريط بحبة تراب ، والى تصعيد الثورة ومواصلة النضال والمواجهة لطرد المستعمرين . واشتهر بالرثاء ، ومن جميل رثائاته قصيدة "كيف ارثيك يا أبا سلمى " التي فاضت بها روحه الحزينة الباكية غداة رحيل صنو روحه العزيزة ، الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) ، التي يقول فيها :

يا أبا سلمى ويا خير الصحاب

 حسبي اللـه فقد جل المصاب

 لست ادري بعد ان فارقتنا

 كيف ارثيك ودمعي في انسكاب

 كيف ارثي الشاعر الفذ الذي

 ملأت أخباره كل رحاب

 كيف ؟ هل استطيع أن ارثي فتى

 طاولت اشعاره كل سحاب

 كان صنو الروح في عهد الصبا

 كان يرعاني اذا لاقيته

 ولكم يسأل عني في الغياب

 كم شربت الود في صحبته

 صافياً لذ على قلبي وطاب

 وانتشينا من لبانات الهوى

 وكرهنا بعده كل شراب

 يا أخا روحي لقد خلفتني

 نضو هم وانين وعذاب

 اقفرت بعدك آفاقي وقد

 خانني الشعر وجافاني الصواب

 وحرمت النوم الا غفوة

 كلها ذعر ولوم وعتاب

 وتولى خافقي الحزن وكم

 خشع القلب أسيفاًواناب

 موقفي صعب ، وكم من موقف

 لي قد حفت به كل الصعاب

 وعندما فجعت فلسطين باستشهاد المجاهد عز الدين القسام كتب محمد علي صالح في ذكراه مطولة شعرية رائعة ، نقتطف منها :

افتتح بالفدا والآلام

 منهج الحق يا دم القسام

 ومر القوم ان يكفوا عن القول

 فلم ننفع بصوغ الكلام

 كيف ابطلت في انصبابك

 للحق ، زكياً عبادة الأصنام

 يا دماً لم يرق على سرر

 الذل ولكن اهريق في الآجام

 قد طويت القرون حتى شهدنا

 بك عهد النبي والاسلام

 محمد علي صالح من رجالات النضال والثورة والشعر الذين ساهموا في الحياة الثقافية والادبية والنضالية الفلسطينية ، ولعبوا دوراً هاماً في مسيرة شعبنا الفلسطيني التحررية . والواجب الوطني يتطلب تعريف الاجيال الفلسطينية الجديدة والقادمة بهم ، واستذكارهم في الندوات والحلقات الادبية والمواسم الثقافية ، وذلك وفاءً وتقديراً لعطاءاتهم وجهودهم ودورهم كشعراء ومناضلين كرسوا وافنوا حياتهم دفاعاً عن القضايا الوطنية والحق الفلسطيني . والمطلوب من وزارة الثقافة الفلسطينية والمؤسسات الثقافية في الاراضي المحتلة العمل على تجميع كتابات محمد علي صالح في مجالات الشعر والأدب والسياسة ونشرها في كتاب صيانة لارثه الثقافي والأدبي وتاريخنا الوطني .