برد الزنزانة
تاريخ النشر : 2013-12-14 18:24

يصعب على المرء الكتابة عن معاناة الأسرى ما لم يعايشها بنفسه، ويعاين الدقائق والثواني التي هي ليست سريعة كما هو في الخارج؛ بل متوقفة، أو بطيئة، وثقيلة، وحملها على النفس أثقل من حمل الأحجار الثقيلة.

فالزمن يمر سريعا، وقد لا يشعر بمروره أصلا المرء في ظل صراع الحياة وكثرة طلباتها في الخارج؛ ولكن في الأسر، وخاصة في الزنازين؛ فالزمن يكاد يتوقف، ولا ليل ولا نهار، ولا ساعة، ولا صوت آذان، ولا صباح ولا مساء؛ بل ضوء خافت في سقف الزنزانة، وأصوات السلاسل وطرق أبواب الزنازين، وصراخ التعذيب؛ وهذا كله (كوم)، والبرد القارص(كوم) كما يقولون في المثل العامي.

فالبرد في الزنزانة له وقع آخر غير الذي في الخارج؛ ففي الخارج يمكن أن يهرب ويلوذ المرء لمواقد النار، أو يلوذ لأي مصدر للحرارة، لتعويض نقص الدفء لديه؛ ولكنه في الزنزانة، ليس له إلا  الله، والتضرع إليه، ومحاولة أن ينكمش على نفسه لأجل الشعور ولو للحظات بحرارة جسمه المتناقصة، ووقف "صق" أسنانه ببعضها البعض، مرة تلو أخرى، دون جدوى.

ولعل من أشد فترات الأسر والاعتقال هي فترة التحقيق؛ فخلالها يظن المرء انه لا يوجد على هذا الكون، بشر وأناس من لحم ودم؛ بل حيوانات كاسرة على صورة بشر، فلا رحمة ولا إنسانية، ولا عقل، ولا منطق؛ وكل ما في الأمر ببساطة اعتراف وخلاص؛ وحتى ولو كان كاذبا؛ وهو ما يحصل مع العديد وليس الكل من الأسرى؛ للخلاص من التعذيب الذي لا يقدرون على احتماله، وهذا يتبع قدرة كل أسير على التحمل والذي يختلف من شخص إلى آخر؛ إلا انه وبالإجمال توجد قدرة وطاقة معينة لكل إنسان.

لعل ما يوجع كل إنسان حر وشريف هو برد الزنزانة الذي يتعرض له الأسرى الأطفال والنساء والفتيات الأسيرات؛ وهذا ليس بالأمر الجديد فكل أسيرة تتحرر، أو كل طفل يتحرر يتحدث  عنه وبإسهاب .

ففي معتقل هشارون ينهش البرد القارص أجساد أسيراتنا من الفتيات والنساء؛ فالسقف يدلف فوق أسرتهن الحديديه وكل ما يحيط بالزنازين، فالحديد بارد جدا، والتدفئه معدومه، والأسيرات يغرقن بالمطر والبرد القارص.

صور التعذيب الأخرى لا تقل همجية ووحشية عن برد الشتاء، الذي يستغله المحققون والسجان لتعذيب الأسرى والأسيرات؛ فهناك أيضا تقييد الأيدي للخلف، ووضع الكيس النتن  في الرأس، والضرب والشبح، وسب الذات الإلهية، والأم والأخت والبنت، ومنع النوم والأكل والشراب...

ليس بإنسان من يرى أخيه الإنسان يهان ولا يحرك ساكنا، وليس بإنسان من يرى أخيه في الإنسانية يتألم ولا ينصره أو يحاول رفع الظلم عنه. كل إنسان لا يتألم لألم أخيه الإنسان بغض النظر عن لونه أو دينه أو انتمائه، فهو بذلك يتجرد من معاني الإنسانية، وينزل للحضيض؛ ولاحقا يخسر دنياه وآخرته.