عندما تنكشف الأوراق
تاريخ النشر : 2013-12-08 09:37

يجمع المراقبون السياسيون على أن الفرق الكبير بين دول العالم الأول وغيرها من التصنيفات الأدنى، أن الأخيرة لا تهتم بقراءة الأحداث، ولا تهتم بتحليل مسيرة التاريخ، لذلك تقع في مختلف الأخطاء المتكررة التي تقعدها في معظم الأحيان عن الإفلات من تصنيفها كدول عالم ثالث أو دونه إلى تصنيف أعلى.
فالسياسات الأميركية ظلّت مثار جدل طويل في منطقة الشرق الأوسط، خاصة المنطقة العربية التي عانت كثيراً من تقلباتها، ومراوغة ساستها، وتدخلهم الذي وصل حدّ الغطرسة والإملاءات في بعض الأحيان على بعض دول المنطقة. ولعل الحقبة الأوبامية التي لم تكمل حتى الآن تمام الولايتين من العمر، كشفت الكثير من مخبوءات أميركا السياسية، وبدأت اللعب على المكشوف، ما أفقد الولايات المتحدة الكثير من مصداقيتها.
في عهد أوباما تحطمت أسطورة أن الهم الأول للسياسة الأميركية هو مصلحة وأمان إسرائيل، لأن إسرائيل كدولة عاشت العديد من الأزمات، وطغت العديد من السحب على علاقتها بأميركا بين الفينة والأخرى، كان آخرها الاتفاق الأميركي مع طهران، والذي لا زالت تل أبيب تعارضه، فالسياسة الأميركية تنظر في المقام الأول لمصلحة أميركا وحدها، وفي سبيل تلك المصلحة، تستغل الولايات المتحدة نفوذها وقدراتها الحربية الكبيرة في بسط سياسة البلطجة التي تهدف لإخضاع الآخرين، وجعلهم أدوات لتنفيذ مختلف المخططات، خاصة بعدما حلّت بأميركا الأزمة الاقتصادية التي ظهرت نتائجها جلية في الفترة الأخيرة، رغم أنها بدأت منذ سنوات طويلة، وظلّت الحكومات المتعاقبة في أميركا تتكتم عليها.
فالقضية الفلسطينية التي ظلّت الهدف الرئيسي للعرب، ضاعت معالم حلّها، وأصبح من العسير على الفلسطينيين في ظل «الفوضى الخلاقة» التي نجحت مخططاتها بالمنطقة، أن يعيدوا توحيد الرأي العربي حولها كما كان يحدث في السابق، لأن معظم البلدان العربية انشغلت بأوضاعها الداخلية التي تمكنت أميركا بطرق مباشرة أو غير مباشرة من أن تجعلها الهم الأول والأخير لكل دولة. ففي دول الخليج العربي على سبيل المثال، والتي أثبتت في مجملها قدرات نهضوية وإعمارية واقتصادية كبرى، وحالات من الاستقرار الاستثنائي في المنطقة، لم تسلم الحكومات والشعوب من التنظيمات المتأسلمة التي غرست وسقت ورعت شجرتها الولايات المتحدة، ودعمتها بكل أنواع الدعم للدرجة التي أوصلتها إلى سدّة الحكم في بعض دول المنطقة القوية، كمصر، رغم أن الأخيرة وقّعت على معاهدة سلام كامب ديفيد مع إسرائيل برعاية ومباركة أميركية، وخسرت الكثير من هذه المعاهدة، فقد قاطعتها معظم الدول العربية بعد الاتفاق، ولم تستفد مصر من المعاهدة سوى الوقف الكامل للأنشطة الحربية، والتي لم تتحوّل كما توقع الشعب المصري، إلى تنمية حقيقية محسوسة بين أفراد المجتمع. أميركا من خلال دعمها التنظيم الإخواني المتأسلم للوصول إلى كرسي الحكم في مصر، جعلت المراقبين في حالة تساؤل دائم عن الأسباب التي دعت الولايات المتحدة للمساعدة على استبدال نظام لم يخلّ بمعاهدته مع إسرائيل، واستبداله بنظام متأسلم ظلّ ينادي دائماً بإفناء إسرائيل، ويعمل بين الفينة والأخرى على توتير وإرباك حركة التجارة الدولية بعدد من المقاطعات السلعية. وما زاد المراقبين حيرة أن هذا النظام المتأسلم الذي توقعوا له أن يكون العدو الأول لإسرائيل، بان على حقيقته التي لا تؤمن سوى بالتناقض التام بين الشعارات والأفعال، وبات الحامي الأول والأوفى للديار الإسرائيلية، وأوصل الفلسطينيين والعرب جميعاً لنقطة أقرب لليأس من إمكانية إحداث أي تقدّم في حلّ القضية، أو على الأقل تلقُّف أيّ حلّ مهما كانت درجة تباعده عن سقف التطلعات والطموحات. وعندما تمت إزاحة المتأسلمين عن سلطة الكنانة أقام الأميركيون الدنيا ولم يقعدوها، وبدؤوا التلويح باستخدام مختلف الأسلحة لإعادة المتأسلمين إلى السلطة، ورأوا في اختيار الشعب المصري كفراً بالحرية والديمقراطية وخروجاً عنهما، ولوّحوا بخيار قطع المعونات الاقتصادية عن الجيش والحكومة... لكن أميركا سرعان ما بدّلت موقفها بعدما تمكّن مفتوها الذين لا يختلفون عن شيوخ فتاوى الاتجاه المتأسلم الذين يلوون عنق الفتاوى لمصلحة الأجندة السياسية، لتبدأ الولايات المتحدة على استحياء بمباركة ما اعتبرته انقلاباً على الديمقراطية التي قالت من قبل إنها لن تتعامل مع أي نظام يخرج عن مسارها، وهو ما كشف حقيقة الخطوة الأميركية التي وجدت نفسها تحتاج لاستعادة ما كانت تملكه من علاقات، بعدما رفضت الحكومة المصرية الانصياع لكل التهديدات والضغوط، بل وبدأت خطوات جديّة للتحوّل عن المعسكر الأميركي إلى المعسكر الروسي الذي بدأ خطواته الجادة لاستعادة محوريته التي فقدها منذ عهد جورباتشوف ويلتسين، التي فقد بموجبها الكثير من مناطق نفوذه في المنطقة، بعدما استغلت أميركا وبعض الدول الأوروبية انشغاله بلملمة أطرافه، وانتزعت منه معظم مناطق سيطرته، وهو ما جعله يمسك بيديه وأسنانه على الوضع السوري حتى لا يفقد آخر معاقله الاستراتيجية القديمة بالمنطقة.
وساعدت الرعونة والغطرسة الأميركيتان، روسيا على استعادة بعض النفوذ المفقود، بل وحتى علاقات بثوب تبادلي جديد مع بعض الدول الخليجية. فالولايات المتحدة لم تحترم علاقاتها المتميزة بالخليج، وظلت تعمل على إضعاف المنطقة وبثّ الفتن فيها، فأدخلتها في حروب متواصلة منذ ثمانينيات القرن الماضي لاستنزاف قدراتها، وإجبارها على زيادة نفقات التسليح منها. ورغم مناوشاتها الطويلة مع إيران، إلا أنها في خاتمة المطاف باركت لها بطريقة غير مباشرة، تحقيق أطماعها بصيرورتها الشرطي الوحيد الأقوى في المنطقة، ما يساعدها على نشر التّشيُّع، والسعي لإقامة الدولة الدينية التي جمعتها فكرياً بتنظيم الإخوان المتأسلمين الذين تخلّت عنهم أميركا في الظاهر فقط، ما يفسّر التصريحات المتناقضة بين حين وآخر.
ورغم خصوصية العلاقات الخليجية الأميركية وحاجة الطرفين لهذه الخصوصية، فإن الولايات المتحدة عملت منذ فترة طويلة بنظام «القنبلة الموقوتة»، وهو ما تعلمته من السياسة البريطانية التي اعتادت زرع بؤر حدودية قابلة للاشتعال، وصنع عداوات قابلة للتطور في كل منطقة من المناطق، فقامت بزرع إحداها لتبقى نشازاً يؤرّق تجانس المنطقة، ومنها تقوم بتصدير كافة أوجه الاستهداف، ما جعل بعض الدول الخليجية التي قرأت أحداث المنطقة جيداً، تُيمّم هي الأخرى تدريجياً شطر روسيا، لتنضم لعدد من دول المنطقة، والعالم الثالث عموماً، المتخلية تدريجياً عن الحضن الأميركي، وبناء حلف روسي جديد بشروط مختلفة استوعبت وتجاوزت أخطاء الأحلاف الماضية، خاصة في ظل التقارب الروسي مع الصين التي شكّلت محوراً اقتصادياً بات يهدد الاقتصاد الأميركي المنهار أصلا، وهو ما يؤدي بأميركا للسير حثيثاً نحو العزلة.
عن الاتحاد الاماراتية