أفول النموذج التركي
تاريخ النشر : 2013-12-07 09:56

لم يكن رد الفعل المصري علي ممارسات تركيا‏-‏ أردوغان المناهضة لـ‏30‏ يونيو والداعمة لجماعة الإخوان المسلمين باستبعاد سفيرها في القاهرة هو الأول من نوعه‏.‏ فمنذ نشأة العلاقات المصرية ـ التركية في منتصف العشرينيات كانت دوما متأرجحة بين التقارب حينا والفتور في أحيان كثيرة‏.‏

إذ سبق للقاهرة أن اتخذت الإجراء ذاته مرتين في الخمسينيات والستينيات وتحديدا في1954 بحكم ارتباط السياسة التركية ببريطانيا( القوة الاستعمارية وقتئذ) وفي1961 بسبب ترحيب أنقرة بانفصال سوريا عن مصر, أي أن تلك العلاقات ولدت أساسا في مناخ سياسي مضطرب تسيطر عليه عوامل التنافس علي النفوذ في الشرق الأوسط, وبالمثل سيطرت عوامل عدم الثقة علي تلك العلاقات طوال حقبة الحرب الباردة. ورغم القليل من المظاهر الايجابية التي اعترت العلاقات المصرية- التركية في أواخر الثمانينيات وفي التسعينيات بعد زيارة رئيس وزرائها- في ذلك الوقت- نجم الدين أربكان للقاهرة و إعلانه عن تشكيل مجموعة الـ8 النامية ودخول مصر عضوا بها(1997) و قيامها بدور الوساطة بين تركيا وسوريا, فإنها لم تؤد الي تغيير جذري في طبيعتها, وظلت مقصورة علي بعض الجوانب الاقتصادية.


لم تبدو تلك العلاقات أكثر دفئا وتعاونا إلا بعد وصول جماعة الإخوان المسلمين إلي الحكم, حيث ظهرت أكثر تواؤما وانسجاما مع حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي بزعامة أردوغان, ولذلك لم يكن غريبا أن يرفع رئيس الوزراء التركي نفس شعارات الإخوان وأن يدافع عن رئيسهم المعزول, والأهم من ذلك هو استضافته لاجتماعات تنظيمهم الدولي والترويج لملاحقة ومحاكمة ما سموه بـ قادة الانقلاب في مصر. والسؤال المنطقي هو: لماذا يبدو أردوغان في أعين الكثيرين ملكيا أكثر من الملك؟! والمفارقة هنا أنه هو نفسه الذي قاد حملة منذ ما يقرب من الـ15 عاما ضد أستاذه و معلمه أربكان ذي المرجعية الإخوانية الصريحة بدعوة انتمائه الي الماضي وعدم استيعابه لقيم المجتمع التركي وطبيعة دولته العلمانية, فانقلب عليه وشكل حزبه الإسلامي ذا الطبيعة المعاصرة, الذي يقوي من وجهة نظره علي التعايش مع المتناقضات دون صدام مع الدولة والمجتمع! أي أن موقفه التاريخي والإيديولوجي كان علي عكس موقفه اليوم من جماعة الإخوان في مصر وحكمها التصادمي الذي لم يستمر أكثر من عام.


إن أية إجابة عن السؤال السابق لابد أن ترتبط بالدور الإقليمي الذي تريد أن تلعبه تركيا في الشرق الأوسط, وهو دور تغير علي مدي العقود الماضية قبل أن تتشكل ملامحه الحالية التي استقرت علي فكرة النموذج الذي تقدمه اليوم لما يعرف بالإسلام المعتدل, والذي يراد تصديره الي المنطقة. ففي حقبة الحرب الباردة لعبت تركيا دور بالحارس الشرقي لحلف الناتو في المنطقة. وبانتهاء تلك الحقبة تغيرت المعطيات الإقليمية واكتسبت عملية السلام الفلسطينية ـ الإسرائيلية بعد انعقاد مؤتمر مدريد1991 واتفاقيات أوسلو1993 زخما, و كان الدور المنوط بها- أي تركيا- هو المشاركة في تدشين نظام إقليمي جديد يفضي في النهاية الي إقامة تجمع اقتصادي شرق أوسطي تكون إسرائيل وتركيا جزءا أصيلا فيه, وهوما لم ينجح.


وفي رحلة البحث عن الدور الإقليمي, برزت الأهمية الجيواستراتيجية أي الجغرافيا والسياسة لتركيا, لتكون جسرا بين الشرق والغرب. فتركيا لدي الشرق هي دولة شبه غربية بحكم نظام دولتها العلماني وعضويتها في حلف( الناتو) ولكنها في نظر الغرب مازالت دولة شرقية. وهو ما أفشل مساعيها الحثيثة والطويلة للانضمام اليه رغم الدعم الهائل الذي قدمته لها الولايات المتحدة والذي اصطدم في النهاية برفض أوروبي لقبولها في الاتحاد.
لذلك سعت تركيا, بحكم إرثها التاريخي والحضاري, لأن تكون مكسبا لأوروبا وليس عبئا عليها حتي يعلو دورها ويلقي قبولا دوليا عموما وغربيا خصوصا وهو ما حدث بالفعل برعاية أمريكية ومهد لوصول حزب العدالة والتنمية للحكم. فقد أغري واشنطن فكرة النموذج كأداة لتنفيذ سياساتها الإقليمية في الشرق الأوسط, خاصة بعد تزايد ظاهرة الإرهاب العالمي علي يد تنظيم القاعدة وصعوبة التصدي العسكري والأمني له, فبرزت فرضية تمكين الإسلام المعتدل لاحتواء المتطرف والعنيف. هكذا تشكل الدور الإقليمي الحالي لتركيا الذي يستخدم الرابط الديني والأيديولوجي للسيطرة علي المنطقة من خلال دعم أنظمة شبيهة تدين لها بالولاء وتكون أكثر تناغما مع دورها الجديد. ولاشك أن وصول الإخوان للحكم في مصر كان جزءا لا يتجزأ من هذا السيناريو. والواقع أن الاعتماد علي الدور النموذج لا يقتصر علي الشرق الأوسط وإنما يمتد الي مراكز الثقل التركي في القوقاز والبلقان وآسيا الوسطي, خاصة في الجمهوريات الناشئة المستقلة عن الاتحاد السوفييتي ذات الأغلبية المسلمة, وهو ما يعلي من قيمة هذا الدور الاقليمي, ليس فقط لدي الولايات المتحدة وإنما لدي روسيا أيضا التي تسعي للتقليل من الأضرار الناتجة عن فقدانها لنفوذها هناك, أي في محيطها الجغرافي.
ولا شك أن حالتي أفغانستان والشيشان هما مثالان واضحان في هذا السياق يدفعان موسكو للبحث عن تعاون مع أنقرة لاحتواء الحركات الدينية الإسلامية المناهضة لها( أي لموسكو) في هذه الأقاليم. صحيح أن إيران هي الحليف الروسي الذي كان يمكن الاعتماد عليه بخلاف تركيا الحليف الأمريكي, إلا أن غلبة المذهب السني علي مثيله الشيعي في هذه الجمهوريات يجعل من الدور التركي أمرا لا غني عنه في كثير من الحالات. ومن هنا كان التنافس بين إيران وتركيا حول تصدير نموذج كل منهما سواء إلي الشرق الأوسط أو آسيا الوسطي هو الأساس الذي تبني عليه سياساتهما الخارجية, حيث الارتباط بين فكرة النموذج والدور الإقليمي الشديدة الوضوح. هناك عامل آخر تهتم به تركيا من خلال دورها الحالي وهو فتح الأسواق العربية والخليجية أمام منتجاتها واستثماراتها, مما يدعم من نفوذها السياسي والاقتصادي معها, بالإضافة إلي هذه الأسباب فان نجاح تركيا في سياساتها الإقليمية سيقوي من حكم اردوغان تحديدا الذي يواجه معارضة داخلية أظهرتها أحداث تقسيم إلي جانب ما يلاقيه حزبه من دعاوي تتعلق بالفساد والمحسوبية وغيرها, ولذا بدا وكأنه يربط نجاحه السياسي بدوره الخارجي.
لهذه الأسباب لا يبدو أن تركيا- اردوغان ستستسلم بسهولة, فقد استعدت لهذا الدور منذ زمن طويل ووجدت في ثورات الربيع العربي فرصة تاريخية لتحويل الحلم إلي واقع, وبتأييد أمريكي أيضا, سعيا لـ الشرق الأوسط الكبير أو الجديد. ولكن يبقي القول ان فكرة الدور المعتمد علي النموذج قد بدأت في الأفول وهذا هو التحدي الحقيقي لسياساتها الراهنة.
عن الاهرام