السلطة ومواجهة الفكر الإبداعي
تاريخ النشر : 2015-05-24 15:36

يذكر البروفيسور جيه ستيرنبرغ في مقدمة كتابه “التفكير الإبداعي وبحوث الإبداع العالمية” ترجمة الدكتور عبدالمحسن شلش السراج، ما معناه أن نظرة الناس تختلف إزاء ثيمة التفكير الإبداعي، فقد يعتبر شعب ما إن فكرة الديمقراطية هي من صلب التفكير الإبداعي الذي يحقق تقدم البشرية وتطور أسلوب حياتها، بينما يرى أشخاص آخرون وربما سلطة دولة ما أو رؤية عامة لدى شعب، أن الديمقراطية قضية غير إبداعية بالمطلق، ففي الولايات المتحدة تعدّ الديمقراطية فكرة غير إبداعية كليا حيث أنها من المسائل التي يجري التفكير فيها وتطبيقها، وهذا يعني أنها فكرة تعاني من الوضوح بسبب إمكانية فهمها من قبل الجميع، ولذا فلا يمكننا اعتبارها قضية إبداعية، بينما نجد شخصا في بلد آخر يمتلك فكرة عن الديمقراطية قد يعتبره البعض مبدعا -على الأقل- وهو يواجه “أفكار الحكومة” المستبدة بفكر إبداعي لا اتباعي.
تختلف نظرة الدول العربية أو حكوماتها عن الفكر الإبداعي؛ فالتعميمات حول الفكر الإبداعي تتقارب خاصة لدى الحكومات التي تتوهم أو تدّعي زيفا أنها تعزز الإبداع في الخطاب المعلن للتسويق، غير أن أفعالها تشير إلى تجاهلها الكامل لتعزيز الفكر الإبداعي وإسناد المفكرين، فالحكومات الشمولية تعتمد في دوام وجودها على تجاهل بحوث الإبداع، ويتعرض فيها المفكرون والمبدعون إلى تهديدات لحياتهم لأنهم يطرحون أفكارا تخالف ما تؤمن به السلطة.
فالحكومات التي يتمّ انتخابها عبر عملية التصويت التي غالبا ما يتمّ تزوير نتائجها، سرعان ما تتجاهل أحلام الحشود التي انتخبتها، وتبدأ بمحاربة بعض المبدعين والفكر النقدي المبدع الذي يهدّد وجودها، وتحصر عملية الدمقرطة في صناديق الانتخاب، التي تعدّ واحدة من عشرات الأسس التي تكوّن الجسم الديمقراطي لأية دولة، فلا تختلف بهذا عن النظم الدكتاتورية القامعة، بل تفوقها في وسائل قمع الفكر المبدع.
ثمة نموذج “التضليل” الذي تتخذه بعض الحكومات في الترويج لديمقراطية كسيحة تضاد التفكير النقدي المبدع، الذي يضطلع به المثقفون والمبدعون والمفكرون، وتضع نفسها في مصاف المعصومين الذين لا يخطئون، وليس من حق أحد من العامة أو من المثقفين توجيه النقد لهم أو تأشير أخطائهم أو التصدي لفساد منظومتهم، وإلا اعتبرتهم الحكومة أعداء معلنين لسياساتها، وكممت أفواههم وأدانتهم بتهمة التحريض على السلطة، فهي ترى العالم من منظور أيديولوجيتها وليس من منظور مصلحة المجموعة، فتقسم الناس إلى عدوّ وصديق، وهو التطبيق الدكتاتوري المستند إلى فكرة الثنائيات المتقابلة؛ الأبيض والأسود والشر والخير، ومن هذا المنظور فإن من يمتلك السلطة سيكون في موقع الخيّر والمنقذ، وما الآخر الذي ينتقده غير عدوّ يسعى إلى تهشيم سلطته فيعمد إلى إقصائه ومعاقبته.
حكومات كهذه تتصوّر أن سلطتها تقع في مرتبة مقدّسة لأنها كسبتها كاستحقاق وإرث يعوضها عن قمع تعرضت له في الماضي، فتستخف بمن يختلف مع نهجها ورؤيتها الأحادية للعالم والإنسان، وتبدأ وفقا لمبادئها المغلقة بتحجيم الحقوق الإنسانية لمن يختلف معها فكريا ومنهجيا، فتحظر الحريات العامة التي يكفلها الدستور كحرية المعتقد والتفكير والحق في التعليم وحق حرية التنقل وحق العيش الكريم والنقد وحق التظاهر وحق محاسبة الفاسدين، وترى في كل إشارة إلى هذه الحقوق الأساسية استعداء على هيبتها، لأنها باختزالها الديمقراطية إلى حدّها الأدنى أي في التصويت، فإنها تمسخ فكرة الديمقراطية وتحجّم كل نزوع إبداعي وكل فكرة لا تقع ضمن إطار هيمنتها، ثمّ تتوسّل كافة أساليب القرون الوسطى لمحاربة الفكرة المبدعة والمضادة لنهجها.
كاتبة من العراق مقيمة في عمان
عن العرب اللندنية