تأملات فكرية فى المشكلة الصهيونية
تاريخ النشر : 2015-05-07 12:20

إن تأمل تاريخ وواقع إسرائيل يعد فرض عين على كل مهتم بشأن أمننا القومي، وقد صرفت جل سنوات عمرى فى محاولة أداء هذا الفرض ما وسعنى الجهد،
 وكنت ومازلت أرى فى إسرائيل ما ينبغى التحسب منه على أمننا القومي. ولقد ظللنا لسنوات نحصر المهددات الإسرائيلية لأمننا القومى فى امتلاكها إسرائيل لسلاح ذري، وسعيها للتوسع، ومحاولاتها اختراق مجتمعاتنا العربية بما لا يتناسب مع تقاليدنا وتراثنا إلى آخر تلك التهديدات وأحسبها كلها صحيحة وإن كانت لا تمس جوهر التهديد الذى تجسدت ملامحه شيئا فشيئا، والذى كتبت عنه مرارا منذ سنوات، الذى بلغت خطورته أخيرا حدا غير مسبوق.
التهديد العسكرى يخضع لموازين القوى العسكرية وهى موازين خاضعة للتغير دوما فضلا عن طبيعته الموقوتة تاريخيا، ولقد تجرعنا فى تاريخنا القريب مرارات الهزيمة ولكننا تذوقنا كذلك طعم المقاومة خلال تاريخ طويل من التصدى من معركة الكرامة إلى رأس العش إلى حرب الاستنزاف إلى انتصار أكتوبر.
الخطر الأكبر الذى يتهددنا فى السنوات الأخيرة لا يتمثل فى اختراق الحدود؛ بل فى اختراق العقول وتحوير الهوية وفقا لما يجسده ذلك النموذج الصهيونى فى إسرائيل: الخلط بين الوطن والدين.
لقد قامت الصهيونية منذ كانت فكرة فى عقل هرتزل إلى أن تجسدت فى إعلان بن جوريون قيام دولة إسرائيل حول فكرة جوهرية أساسية وكل ما عداها تفاصيل: اليهودية ليست ديانة فحسب بل هى قبل ذلك وفوق كل ذلك قومية تضم كل اليهود أينما كانوا، ووفقا لهذا المفهوم لا يرتبط الأمن القومى الإسرائيلى بتاتا بحدود إسرائيل مهما توسعت أو انكمشت، ومهما تحدث قادتها عن تهديدات لحدودها وحاجتهم لحدود آمنة؛ الأمن القومى الصهيونى هو أمن كل اليهود فى العالم بصرف النظر عن الجنسيات التى يحملونها بل وبصرف النظر أيضا عن مواقفهم العملية والفكرية من الصهيونية؛ وهو مفهوم غير مسبوق للأمن القومي.
إننا نعرف كما يعرف العالم أن الأمن القومى مرتبط بحدود الدولة و بما يهدد هذه الحدود قرب أو بعد، وأن ذلك الأمن القومى يشمل من ينتمون لهذه الدولة حتى لو هاجروا أو ولدوا خارجها مادام يحملون جوازات سفر الدولة الأم. أى أن الأمن القومى يرتبط بالدولة وليس بالعقيدة.
ولقد مارست إسرائيل الصهيونية عمليا مفهومها الفريد للأمن القومى باعتبارها مسئولة عن أمن يهود العالم حين قامت بنقل يهود اثيوبيا ممن يعرفون «بالفلاشا» إلى إسرائيل حين تعرضت مناطقهم للجفاف؛ ولكى لا يخلط البعض بين جهود الإغاثة الدولية التى يعرفها العالم وبين ما قامت به إسرائيل يكفى أن نشير إلى أن جميع جهود الإغاثة العالمية لا تعرف شيئا من ذلك، والأمر الثانى أن إسرائيل لم تكرر تلك الفعلة قط بالنسبة لأى كوارث إنسانية تعرض لها البشر.
ولقد شهدنا أحدث صورة لذلك الخلط الصهيونى المتعمد بين العقيدة والوطن حين شهدت باريس فى مطلع هذا العام ما عرف بمظاهرة التضامن من صحيفة شارلى إيبدو التى هاجمها إرهابيون إثر نشرها صورا اعتبرت ماسة بالإسلام. ورغم أن أحدا من مرتكبى الجريمة لم يكن له شعارات معادية لإسرائيل أو الصهيونية أو اليهود؛ فإذا ببنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية يدعو يهود فرنسا للهجرة إلى إسرائيل مرددا فى بث تليفزيونى «إلى كل يهود فرنسا ويهود أوروبا أقول: إسرائيل ليست فقط المكان الذى تتوجهون إليها للصلاة بل دولة إسرائيل هى وطنكم».
ذلك هو الخطر الحقيقى الداهم الذى يهدد أمننا القومي. إن مفهوم الدولة الدينية لم يعد ذلك الفهم التقليدى لدولة يقوم نظام الحكم فيها على شريعة سماوية، ولم تعد تلك الدولة التى يحكمها رجال الدين داخل حدودها، فكل ذلك لا يضاهى بحال خطر النموذج الصهيونى الذى تطرحه إسرائيل والذى يعنى ذوبان الحدود وتحول العقيدة الدينية إلى قومية وطنية.
إن الخلط بين الوطن والدين ليس نبتا طبيعيا فطريا؛ فالأوطان والأمم منذ كانت تضم جماعات تتباين توجهاتها وعقائدها بل تأويلاتها لتلك العقائد ومدى تمسك الأفراد بتلك التأويلات، ولم يعرف التاريخ البشرى قط أن تجمع البشر جميعا تحت مظلة أمة واحدة، بل ظلوا منذ بداية الخليقة أمما وقبائل يتعارفون ويتقاتلون ويتصاحبون ويتحاورون.
إن الخلط بين الوطن والدين نبتة غريبة تم استزراعها منذ قديم ووجدت فيها إسرائيل ضالتها المنشودة، حيث لا حدود حقيقية للوطن أو الدولة ولكن العقائد هى الأوطان. وعلى أساس من ذلك الخلط المقصود يشهد العالم اليوم موجات من الإرهاب المتطرف غير المسبوق يتشح بعباءة تأويل محدد للإسلام يقوم تحديدا ودون زيادة ولا نقصان على جوهر الفكرة الصهيونية: «عقيدتنا هى وطننا» وبالتالى لا غرابة فى أن تجتذب تلك التنظيمات الإرهابية متطوعين من جميع البلدان؛ و لاغرابة فى أن يقاتل هؤلاء كل من لا يخضع لأفكارهم و تأويلاتهم.
ذلك هو الخطر الحقيقى الداهم الذى قد تغيب خطورته عن بعضنا؛ بل وقد يجد بالفعل دعما فكريا من بعض من يأخذهم بريق ذلك الشعار ليتحولوا دون وعى لدعم الفكرة الصهيونية الأصيلة.
عن الاهرام