مصر: قصة جاسوس الخطاب الواحد
تاريخ النشر : 2015-04-29 15:53

امد/ القاهرة: في عالم لا يعرف المشاعر والأحاسيس، كان قلبه ينبض بالحب، وفي عالم يعج بالأذكياء كان هو غبيًا ساذجًا، هو الذي عرف اللعبة وقواعدها فسقط ووقع في كل أخطائها. قالوا يومًا من الحب ما قتل، وقد كان، فالحب قتل مستقبل هذا الشاب وحياته، أما أهم ما قتل لديه هو الحب نفسه.

في الـ29 من أكتوبر عام 1941، ولد من قدر له أن يكون آفة أسرته، اسمه جمال حسانين، نجل موظف صغير بوزارة الشؤون الاجتماعية، كان ذلك اليوم شاهدًا على ميلاد اسم كتب بحروف العار في عالم الجاسوسية، ليس فقط لخيانته لوطنه بل كان حتى عارًا على الجواسيس أنفسهم، حسب ما جاء في كتاب «جواسيس الموساد العرب قصة سقوط أشهر 25 جاسوسًا عربيًا للموساد».

حصل «جمال»، الذي كان شديد الغضب لعدم تمكنه من دخول الجيش بسبب معاناته من الـ«فلات فوت»، على دبلوم في المساحة عام 1962، وعين في مصلحة المساحة قبل أن يحصل على دبلوم المعهد الأوليمبي بالإسكندرية، إلا أن مرتبه كان لا يزال قليل حين وقع في حب فتاة تدعى «سماح».

وقف «جمال» أمام المرآة يعدل من رابطة عنقه الرخيصة، كان على موعد الليلة مع حلمه، وواقعه كذلك، الليلة يقابل والد حبيبته آملًا أن يحصل على موافقته على زواجه من ابنته. هو يعلم أن فرص رفضه أكبر من فرص قبوله، إلا أن قلبه كان يرفض أن يقف دون حراك حتى يخطف آخر حبيبته تحت أنظاره.

وأمام والدها، جلس «جمال» يتمنى الموت، حين طالبه والدها بطلبات تعجيزية بالنسبة لوضعه المادي، تمنى يومها أن تكون رابطة العنق حبل مشنقة يلتف حول رقبته يخلصه من حياته البائسة، لكنها لا يجب أن تستمر بائسة، هكذا دار في خلده حين قرر أن يرحل إلى أرض الأحلام العربية في ذاك التوقيت، لبنان.

وقبل سفره إلى بيروت، خضع الشاب لدورة توعية تثقيفية على يد ضباط من المخابرات العامة والحربية للمسافرين لأول مرة لتوعيتهم من طرق تجنيد الجواسيس وإيقاعهم، بعد اكتشاف عدد من الجواسيس الذين تم تجنيدهم في الخارج، وكانت الدورة بمثابة أولى الخطوات التي فتحت أعينه على عالم لم يعلم حينها أن القدر سيقوده إليه.

سافر «جمال» إلى بيروت، لكن الأحلام تبخرت في أرضها، لم يكن الأمر كما صور له، وظل لأيام وأسابيع وشهور يصرف من ليراته القليلة، حتى أصبحت جيوبه شبه خاوية ليقرر أن يلملم خيباته ويعود إلى وطنه، وإلى حبيبته خاسرًا تحديه.

منكس الرأس قابل «جمال» حبيبته «سماح»، ما عسانا أن نفعل الآن؟ قالها لها في يأس وإحباط شديدين، كانت الأبواب مغلقة في وجهه، إلا أن «سماح» كان لديها طريق صعب لكنه كان ربما الباب الوحيد الذي يقود إلى حلمهما بالزواج، وظيفة مسائية لـ«جمال» بإحدى الشركات، لينجز طلبات أهلها للزواج، إلا أن «جمال» رفض أن يخوض هذا الطريق، واختار السفر مجددًا، هذه المرة إلى اليونان، ليصعد على متن سفينة قبرصية إلى ميناء بيريه، وجيبه لا يحمل سوى مائتي دولار.

كان يقال في مصر إن ميناء بيريه يكتظ بفرص العمل، كيف لا وهو الأكبر في اليونان، إلا أن الشاب اكتشف كذب تلك الأساطير وقت وطأت قدماه الأرض الإغريقية، فلا عمل وجد ولا أموال جنى. ومع نفاد أمواله، كان طوق النجاة يحمل الجنسية المغربية، شاب يدعى سمعان، وعده أن يجد له عملًا، إلا أن الوعد لم يوف حتى أصبحت جيوب المصري خاوية، ليقترح «سمعان» على «جمال» بيع جواز سفره مقابل بعض المال، ومن ثم الإبلاغ عن فقدانه، خطة اقتنع بها الشاب المصري وقرر أن يتبع خطوات صديقه المغربي لتنفيذها، وكانت تلك الخطوات لا تقود سوى لقنصلية حملت علم لا تخطأه أعين المصريين بلونه الأبيض وخطيه الزرق ونجمة داوود التي تتوسطه، لم تكن القنصلية سوى قنصلية إسرائيل.

ادعى المغربي أن صديق له بالقنصلية سيبتاع جواز سفر «جمال»، وهو ما حدث بالفعل فاشترى رجل لم يعلم «جمال» أنه لم يكن سوى ضابط بالموساد جواز السفر بـ200 دولار، إلا أن الأهم من الأموال كانت استمارة طلب من «جمال» أن يملأها ليبحث له عن عمل، وتضمنت المعلومات في الاستمارة معلومات عن حياته وأسرته وأصدقاءه بما في ذلك عناوينهم ووظائفهم.

ومن باب قنصلية إسرائيل إلى باب فندق «إيخيلوس» الفخم، ذهب «جمال» ليحصل على غرفة لم يحلم بها من دقائق قليلة، ضيفًا على القنصلية الإسرائيلية، التي بررت دعوتها بأنها تساعد الشباب العربي لـ«إبراز الصورة الحقيقية للإسرائيليين، التي يعمل الإعلام على تشويهها».

في غرفته الفاخرة، استلقى «جمال» على سريره يتقلب وتتقلب معه أفكاره، ماذا يريد مني هؤلاء؟ ألا يتطابق ما يحدث مع ما قاله لنا ضباط المخابرات في الدورة التوعوية؟ هل يريدونني جاسوسًا؟ لا مستحيل، ماذا أملك أنا لأقدم لهم. ربما.. قطع حبل أفكاره رنين الهاتف، كان ينتظره في الاستقبال رجل يدعى «يوسف» ادعى أنه مكلف بإيجاد عمل له.

كان «يوسف» ودودًا فتحدثا في شتى أمور الحياة، حتى ذكر «جمال» له أنه يحب فتاة في مصر، ليكن رد «يوسف»: «أنت في اليونان الآن فلماذا لا تستمتع كما يحلو لك؟». وكانت تلك الجملة مقدمة لسهرة حمراء بدأت في ملهى وانتهت في غرفته، إلا أن الفتاة لم تفارقه ليومان، نجحت فيهما أن تعيد جيوبه خاوية مجددًا من بضع الدولارات التي باع بها جواز سفره.

ومن جديد رن هاتف غرفته، هذه المرة في انتظاره «إبراهيم»، قال إنه صديق «يوسف» ومعجب به بعد قراءة استمارته، ودار النقاش بينهما، نقاش استطاع فيه ضابط الموساد الذي أطلق على نفسه اسم «إبراهيم» أن يتلاعب بعقل المصري الجاهل بالسياسة ليصل به إلى أن اعترف بحق اليهود في فلسطين وتسبب النظام المصري في أزمة اقتصادية نتيجة الحرب ضد إسرائيل، لتحين لحظة الحقيقة، «نريدك جاسوسًا لإسرائيل».

لم يحتاج الأمر كثيرا من الوقت للحصول على موافقة الشاب المصري، خاصة بعد التلميح بوجود صور له في أوضاع مخلة مع العاهرة التي قضى معها يومان، كما قيل له أن الجواسيس الذين يتم الإيقاع بهم يتم تسليمهم في صفقات سرية بين القاهرة وتل أبيب، وأن جواسيس عدة يعيشون في وقت محادثتهم في قصور في بقاع الدولة العبرية. كانت الفرصة التي ينتظرها «جمال» لحل مشكلاته المادية التي ستقود بدورها لحل مشكلته الأولى والأكبر، «سماح».

وسريعًا عمل الموساد على تعليم الجاسوس أساسيات العالم السري، وكذلك أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية، ليتمكن من تمييزها وإمداد تل أبيب بتقارير عنها.

وبعد أربعة أسابيع، انتهت الدورة التدريبية الأولى لـ«جمال» بنجاح، وكانت «سماح» لا تزال كل ما يشغل باله، ليصارح ضابط الموساد بحاجته إلى المال من أجلها، ليؤكد له تقديرهم لحبه للفتاة ويعطيه 1000 دولار، وراتب شهري 200 دولار، بالإضافة إلى 50 دولارًا عن كل رسالة ذات قيمة ترسل إلى عنوان الموساد بروما، باسم «كاستالا يوستالي».

أربعة شهور آخرى قضاها «جمال» في بيريه كنوع من التمويه قبل أن يعود إلى القاهرة حاملًا حقيبة بداخلها فستان عروسه هدية من الموساد.

وفور وصوله، طمأن الشاب المصري الموساد أنه قد وصل إلى القاهرة ويستعد للزواج، في رسالة لم يستخدم فيها الحبر السري وأرسلها إلى عنوان روما، قبل أن يعمل على جمع المعلومات سريعًا من أصدقاءه وأقاربه، سواء العسكريين أو المدنيين، مسجلًا تلك المعلومات في مفكرة.

طوى «جمال» أوراق رسالته العادية الثانية المرسلة إلى صديقه «كاستالا يوستالي» ووضعها في ظرف، كانت خطواته تتابع تجاه صندوق البريد ومعها تتابع ضربات قلبه، الرسالة التي في ظاهرها عادية لم تكن أبدًا كذلك، فقد كانت الرسالة هي الأولى التي يكتبها بالحبر السري، وبين سطور رسالته العادية، كانت الرسالة الحقيقية مختفية. في أجزاء من الثانية سبحت الرسالة في فراغ صندوق البريد قبل أن تستقر في قاعه بجانب الرسائل الأخرى، ربما جاورت حينها رسالة من أب لابنه الجندي أو طفل لأبيه الغائب على الجبهة، ربما جاورت رسائل احتفظ أصحابها بها شرفًا، لتبقى رسالة العار وحيدة بعدها بساعات على مكتب في قلب القاهرة، كانت على مكتب رجل مخابرات مصري.

لا يبدو أن الدورة التدريبية التي حصل عليها «جمال» كانت مجدية بما يكفي، لتسقط رسالته الأولى في يد رجل المخابرات الذي عمل رقيبًا على البريد في ذلك الوقت في أواخر عام 1972.

لم يكن قد عقد صاحب الـ31 عامًا آنذاك قرانه بعد على حبيبته، حين استلقى على سريره بالقاهرة يحلم بذلك اليوم الذي يجمعه بحب عمره التي ضحى بكل شيء من أجلها، وما أهم من الوطن ليضحي به. راح يتخيل «سماح» وهي تدخل من باب شقته بابتسامتها وخجلها، لمعة أعينها صوتها الناعم، ما هذا الصوت المزعج الذي يقطع تلك التخيلات الجميلة، كانت صوت أقدام كثيرة على سلم العمارة في ساعة متأخرة من الليل، سرعان ما انتهت في غرفة نومه تحاصره على سريره، لم يكن وجه «سماح» ولم تكن ابتسامتها التي انتظرها، بل كان وجه ضابط مخابرات مصري ونظرة اشمئزاز وابتسامة ساخرة، كانت النهاية السريعة لجاسوس لم يكن نابغًا حتى أنه فشل أن يعيش دور الجاسوس أكثر من بضعة أيام، ليكن تاريخه في عالم الجاسوسية كله رسالة واحدة، وكثير من الغباء.

حكم على «جمال» بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة 25 عامًا، إلا أن الحكم لم يكن أكثر ما ألم الشاب الذي ضاعت حياته ومستقبله وسمعته، بل الأدهى أن الفتاة التي فعل كل هذا من أجلها تزوجت في فترة محاكمته وسافرت مع زوجها إلى الكويت، لتكن الخسارة كاملة، حياته ووطنه وحتى حب عمره.