ضعف دولة أم شجاعة رئيس؟
تاريخ النشر : 2013-11-28 09:12

قراءة الصحف الغربية والسعودية التي صدرت في أعقاب الإعلان عن توصل إيران والغرب إلى اتفاق تركت الانطباع بأن الصفقة كان لها وقع القنبلة أو الزلزال في أجهزة الإعلام الغربية، خاصة الأميركية والعربية وعلى الأخاص منها السعودية. هدأت الضجة قليلا في دول الخليج، وفي المملكة السعودية بوجه خاص، ولم تهدأ تماما في دول الغرب، خاصة في فرنسا، ولكن في كل الحالات انتقل النقاش العام من حيز التعليق على الصفقة - القنبلة إلى ساحة تحليل خلفيات الاتفاق ومغزاه الحقيقي والمباحثات السرية التي مهدت له ومستقبل الديبلوماسية الدولية على ضوء الفهم الجديد لاستراتيجيات أميركا ودبلوماسيتها.
[[[
كان واضحا بل ولافتا للنظر الجهد المبذول من جانب عدد كبير من المحللين في الولايات المتحدة وخارجها لإعادة « قراءة الرئيس باراك أوباما»، بينما راح محللون آخرون يبذلون الجهد في «إعادة قراءة أميركا»، باعتبار ان الرئيس أوباما إنما يتصرف ويقرر بناء على رؤيته وإدراكه للتغيرات الحادثة في أميركا ومن حولها.
سواء كانت أميركا هي التي تغيرت تحت تأثير ظروف ثقافية واقتصادية وتوازنات دولية، أم كان أوباما صانع التغيير وأميركا تتبعه وتطيع وتتغير حسب رؤيته، تبقى الإشارات واضحة على ان وجه أميركا صار يبدو للإعلام الخاص، وربما لصانعي السياسة في الخارج، مسالما وتصرفاتها تميل إلى تفضيل التفاوض وغيره من الأساليب الديبلوماسية في تعاملها مع الأزمات الدولية أو لتأمين مصالحها القومية. اتساقا مع هذا الفهم تزداد أهمية العودة لدراسة سياسات أوباما منذ أن قرر الخروج بجيوش أميركا من العراق ومن أفغانستان، وقراره بالتراجع عن قصف سوريا بالصواريخ لإجبار الأسد على التخلص من أسلحته الكيميائية واستجابته المذهلة للمبادرة الروسية، وإصراره على مدى سنوات على الاستمرار في التفاوض مع إيران ورفض الابتزاز المتصاعد ضده من جانب إسرائيل ويهود أميركا للسماح لها بقصف مفاعلات إيران وإشعال حرب في منطقة الخليج قابلة للامتداد حتى شواطئ المتوسط.
من ناحية ثانية، عادت تتأكد نية أوباما في رغبته التسرب من الشرق الأوسط متوجها إلى شرق آسيا وجنوبها، باعتبار ان المستقبل الحافل للديبلوماسية، والاقتصاد العالمي، يرقد هناك منتظرا دورا أميركيا فاعلا. رأينا خلال السنوات الأخيرة كيف أن أميركا ألقت بثقل نفوذها وامكاناتها إلى صف تركيا مراهنة على دور قيادي لها في الشرق الأوسط، بعد ان تأكدت واشنطن من أن الدول العربية مجتمعة في نظام إقليمي أو في تجمعات إقليمية أو منفردة ما زالت غير مؤهلة لأداء أي دور في توجيه النظام الإقليمي الشرق أوسطي، ولا حتى النظام الإقليمي العربي. سقط الرهان على تركيا عندما فشلت في سوريا، ولم تكن على المستوى الديبلوماسي والسياسي اللائق بدولة رشيدة مرشحة لزعامة المنطقة في تعاملها مع تداعيات الثورة في مصر وتقلباتها.
من ناحية ثالثة، ثارت مخاوف قوية لدى المسؤولين الأميركيين حول النتائج المحتملة للمحاولات الدؤوبة لإثارة فتنة بين الشيعة والسنة في العالم العربي والإسلامي، وثارت شكوك حول قدرة الدول ذات الصلة على تهدئة أسباب هذه الفتنة ووأدها قبل استفحالها. سمعت خبيرا غربيا اقترب لفترة من مواقع صنع قرارات الشرق الأوسط في لندن وواشنطن وباريس، سمعته يردد أن المسؤولين الأميركيين يعربون عن خشيتهم من أن يتركوا الشرق الأوسط قبل ان يجدوا وسيلة مناسبة تهدئ من الفتنة المذهبية، وأنهم عازمون على الاقتراب من المشكلة عن طريق «تحييد» العامل السياسي فيها، ألا وهو انعزال إيران وشكوكها المتبادلة مع جيرانها وعدم اطمئنانها إلى نوايا دول الغرب وخاصة الولايات المتحدة.
من ناحية رابعة، أدركت واشنطن أنه لا أمل في أن يستعيد النظام الإقليمي العربي في وقت منظور قدرته على التدخل لتسوية أزماته. لقد فشلت الحكومات العربية فشلا ذريعا في التعامل مع الأزمة السورية، بل ان التدخل العربي يتحمل مع الأسد، كلاهما أو مع غيرهما، مسؤولية تدهور الأوضاع في سوريا واشتراك المتطرفين من الأجانب والإسلاميين في حملة هدفها تدمير سوريا. فشل العرب كذلك في استعادة العراق لمكانة يستحقها في النظام العربي، وفشلوا في انقاذ تونس من محنتها وإخراج ليبيا من ورطتها وتخفيف معاناة شعب اليمن.
من ناحية خامسة، تابعت واشنطن، بقلق في بداية الأمر، وفضول في مراحل أخرى، وبتمعن عند النهاية، التقدم الذي أحرزته إيران في محيطها العربي والآسيوي، ونجاحها في تجاوز أو تحمل عقبات الحصار المفروض عليها. فقد حافظت على علاقة متميزة ونافذة في العراق الجديد، ويعود لها الفضل الأكبر في تطوير الحرب في سوريا لمصلحة النظام المتحالف معها، واستمرت فاعلة، وان لم تكن مهيمنة، في الوضع المتجمد اللبناني مساندة أحد الأطراف الأساسية فيه، ومؤثرة في توازن القوى الإقليمي. هذا إلى جانب وساطاتها التي تعرفها واشنطن واستخدمتها في أفغانستان ووسط آسيا، وهي تجارب التعاون التي شجعت أطرافا في أجهزة صنع القرار الأميركي على دعم فكرة الاستعانة بإيران لتسوية بعض الأزمات في المنطقة العربية.
[[[
أستطيع أن أفهم الضجة التي استقبلت بها بعض الدول العربية نبأ الصفقة - القنبلة، فالتاريخ القريب للعلاقات بين هذه الدول وإيران لا يوحي بالاطمئنان للمستقبل حين تصبح إيران قوة إقليمية معترفا بنفوذها وقوتها. أستطيع ان أفهم أيضا السرعة التي هدأت بها الضجة، والعبارات الناعمة التي صدرت في بعض عواصم الخليج وان اجتمعت على اشتراط حسن النوايا لنجاح هذه المرحلة المبكرة من استعادة إيران طرفا دوليا مشاركا في صنع السلام الإقليمي والدولي. أفهم هذا التحول من الضجة إلى العبارات الناعمة على ضوء اعتبارات معينة، منها:
أولا، ان استمرار الضجة النافذة للصفقة يضع الدول العربية المعترضة عليها في صف واحد مع إسرائيل وفرنسا، الأمر الذي يمكن ان يثير غضب الرأي العام العربي والإسلامي.
ثانيا: تسريب أنباء تؤكد أن المباحثات التي مهدت للتوصل إلى صفقة جنيف جرت في سلطنة عُمان بعلم ومتابعة عدد من عواصم الدول أعضاء مجلس التعاون، ودول عربية أخرى.
ثالثا: على ضوء تطورات الموقف الأميركي من سوريا، والمؤشرات الدالة على طبيعة السياسة الخارجية الروسية في هذه المرحلة، وانكشاف وهم وجود سياسة خارجية أو دفاعية أوروبية في طور النشأة، على ضوء هذا كله، تأكدت الدول العربية الحليفة لأميركا منذ عقود عديدة، أن لا بديل لأميركا في الدفاع عنها في مواجهة مع إيران وفي وجود صفقة أو في غياب الصفقة.
رابعا: بدأ يتكون في دول عربية عديدة، وفى دول خليجية بالتحديد، رأي عام يأمل في أن تصدق نبوءة أو تمنيات الأميركيين الذين اشتغلوا لعقد هذه الصفقة مع إيران، وكانوا يعتقدون ان إعادة دمج إيران في المجتمع الدولي سيجعلها أكثر ثقة في جيرانها ويفرض عليها انتهاج سياسات سلمية وإقامة علاقات طيبة معهم.
[[[
أنا، وبعض الذين أتابع ما يكتبون ويناقشون، سنبقى متطلعين ليوم نتعرف فيه بقدر من الدقة على اسلوب أوباما في السياسة الخارجية. البعض منا يعتقد أن أوباما أثبت أنه «مستقبل ومستخدم» جيد لمبادرات الآخرين، بمعنى استعداده الطيب للاستجابة لمبادرات يطلقها آخرون توفر عليه اتخاذ قرار حرب. يراه البعض الآخر منا صانعا مبدعا لمبادرات يمتنع عن إطلاقها بنفسه أو باسمه وتتركز براعته في قدرته على تسريبها لدول وزعماء أجانب يطلقونها، ثم يتبناها.
أمامنا تجارب تؤكد هذا الرأي وأخرى تؤكد الرأي الآخر. نسأل هل سرب أوباما إلى روسيا مبادرة تخلي سوريا عن أسلحتها الكيميائية أم كانت حقا مبادرة روسية استجاب لها أوباما؟ ونسأل هل كان العمل الشاق في الأسابيع الأخيرة للتمهيد لاتفاق مع إيران بمبادرة من مرشح الثورة الإسلامية وتلقفها أوباما أم مبادرة سربها أوباما إلى الرئيس روحاني عن طريق وسطاء من الخليج أو أوروبا وتلقفتها السلطة الإيرانية؟ أسئلة وتكهنات لا تخرج عن كونها تمارين أكاديمية، فالعبرة دائما بالنتائج.

عن الشروق المصرية