دواعش إلا ربعًا
تاريخ النشر : 2015-02-08 10:55

في سلسلة متواصلة من التبني المدروس لنشر البشاعة والتوحش انتقل تنظيم داعش الإرهابي من «النحر» البشع إلى «الحرق» الأكثر توحشا، وكان صادما بحق المقطع الذي نشره التنظيم بحرق الطيار الأردني البطل معاذ الكساسبة حيا، وستتفتق العقول المريضة مستقبلا عن بشاعات وتوحش يبدو بلا نهاية ولا رادعٍ.

منذ ما كان يعرف بالربيع العربي بدا أن العالم يواجه مرحلة جديدة من التاريخ أقله في المنطقة، ومن امتحان النظام الدولي ومدى قدرته على الاستمرار والنجاح، هذا النظام الذي بدأ بسلام وستفاليا الأوروبي في القرن السابع عشر - كما كتب كيسنجر - ثم أصبح دوليا بعد عملياتٍ طويلة من التطوير والتعديل سمحت له بالبقاء والانتشار، وقد مرّ بامتحاناتٍ كبرى في أوروبا، ثم في العالم حتى رسا على الصيغة المعروفة اليوم، وما جرى ويجري في منطقة الشرق الأوسط يؤكد أنه بحاجة إلى مراجعاتٍ ذات أهمية وتأثيرٍ.

لقد تجلى الربيع العربي عن ربيعٍ أصولي صريحٍ تمثله جماعات الإسلام السياسي وجماعات العنف الديني التي سيطرت على المشهد برمته، وكان يتبعها ويصفق لها جموعٌ من المثقفين والكتّاب باسم الديمقراطية تارة وباسم الحقوق تارة أخرى، وباسم مفاهيم خلقت وتطورت في سياقٍ غربي ليس لنا به صلة، وقد طوّرت هذه الجماعات آنذاك آلياتٍ لتبني تلك المفاهيم كمسمى، والجنوح عنها كواقعٍ، وهي آلياتٌ منافقة تكشف زيفها لاحقا.

أنتج هذا الربيع الأصولي ربيعا أكثر تخلفا، وهو ربيع الطائفية والعرقية والمذهبية، وهو مستمر في إنتاج المزيد من الصراعات الهوياتية الضيقة والأكثر ضيقا، تلك التي تجتلب من بطون النقاط السوداء في التاريخ لتصبح حاكما على الواقع، وهذه الصراعات الهوياتية المتخلفة والأكثر تخلفا تسفر في النهاية عن نجاحاتٍ أو خيباتٍ سياسية، بمعنى أنها تخرج من التاريخ لتؤثر في الواقع، ولترتب الأولويات في المشهد السياسي لا إقليميا فحسب، بل ودوليا، ومن هنا فإن الصراع مع «داعش» أو مع الحوثي أو مع الميليشيات الشيعية التي تعيث فسادا في العراق وسوريا يجب أن يكون دوليا لا إقليميا فقط.

الدعم الأكبر لـ«داعش» كان يأتي من إيران ونظام بشار الأسد في البدايات، ثم أصبح تركيًّا نظرا لتوازناتٍ تحسبها أنقرة تصب في مصلحتها، ثمّ إنها فكريا وتنظيميا تنتمي لجماعة الإخوان المسلمين كما سبق أن أوضح كاتب هذه السطور في هذه المساحة تحت عنوان «داعش بين الوهابية والإخوان المسلمين»، كما أنها تنتمي سياسيا لإيران التي بدأت وطوّرت ووسعت استخدام «الطائفية» كسلاحٍ سياسي في المنطقة.

دون شكٍ، فإن العالم الإسلامي برمته اليوم بحاجة لخلق منظومة تأويلية تخدم الإسلام وتنزع عنه رداء العنف والتوحش الذي تحاول هذه الجماعات إلباسه له، ومن هنا فإن اتهام فقيهٍ كابن تيمية وحده بالمسؤولية عن العنف المعاصر قول لا يمت للعلم بصلة، وللتاريخ فإن تنظيمات العنف التي انطلقت منذ الثلاثينات من القرن الماضي وما تفرع عنها لم تتعرف على ابن تيمية ولم تستند إليه إلا في السبعينات حين استدل محمد عبد السلام فرج في رسالته «الفريضة الغائبة» بفتوى ماردين، واستحضرته «داعش» في دعوى التشريع لحرق الطيار الكساسبة.

وتوظيف المصادر الفقهية القديمة واستحضار نصوصٍ منتقاة منها لخدمة أهداف سياسية كانت بدايتها مع التأويلات التي بنتها جماعات الإسلام السياسي بدءا من الإخوان المسلمين وانتهاء بـ«داعش».

ولنتساءل هنا ما هي الدولة التي تعاديها «داعش» وتضعها نصب عينيها في خطابها وفي الكلمة المسجلة الثانية لخليفتها المزعوم وفي عملياتها تهاجم حدودها وفي المقاطع المصورة التي تنشرها وفي تمزيق جوازات سفرها؟ إنها السعودية بكل بساطة وهو دأب كل الجماعات الأصولية من الإخوان المسلمين إلى «القاعدة» إلى «داعش»، لأن بين الجهتين صراعا على مشروعية تمثيل السنة والإسلام الذي لم تزل السعودية هي رافعة رايته وممثلة أتباعه، وهذا الصراع هو صراع وجودٍ أو عدمٍ، فأحد المشروعين ينفي الآخر.

ولئن كانت الجريمة صادمة فقد كان صادما أيضا الخلل الكبير في وعي بعض من يصنفون نخبا وما هم في الحقيقة إلا صف خامس للإرهاب، وأولئك هم المبررون للجريمة بشتى أصنافهم وأساليبهم، فهناك كتّابٌ غاضبون على دولهم وغضبهم يدفعهم للتبرير لجرائم «داعش» حتى الفاحشة منها، مثل حرق الكساسبة، وهناك تيار ما يسمى بالتنوير والحقوق الذين لم ينوا في التبرير للجريمة، وهناك تيار ما يسمى بالقومية العربية الجديدة في السعودية والخليج، وكل التبريرات التي قدّموها تبريراتٌ أوهى من خيط العنكبوت، وفي السعودية وبعض دول الخليج أنظمة وقوانين تجرّم تشريعيا تبرير الإرهاب والتماس المخارج له.

إن التحالف الدولي ضدّ تنظيم داعش هو نجاحٌ للدول العربية الحريصة على مصالح الدول والشعوب العربية وتشارك فيه السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن، وهو تحالفٌ يحمي دولنا وشعوبنا وحدودنا من شرور الإرهاب الذي يطالنا قبل أن يطال الغرب، ولكن هؤلاء يرون أن دولنا مجرمة لاشتراكها فيه فكتب أحدهم: «داعش تقتلنا لا تدافع عنا، هي تخوض معركتها التي تعنيها ضد تحالفٍ مجرمٍ ومنافقٍ لا يختلف عنها». ويكتب آخر: «عجيب! رغم هذه الحروب الشعواء التي يشنها العالم على الإرهاب إلا أنه في ازدياد! لا بد أنها حروبٌ غير مشروعة فهي ليست في مكانها الصحيح». هكذا أصبحت دولنا مجرمة ومنافقة مثل «داعش» وحروبها غير مشروعة في نظر هؤلاء.

هذان نموذجان فقط، وإلا فما كتب شديد الخطورة ويبين انتفاء مشروعية الدولة لدى العديد ممن كتبوا مثل هذه التبريرات للإرهاب، وأغلبها مكتوبٌ في مواقع التواصل الاجتماعي وهو ما يفتح موضوعا آخر لا يقل أهمية في محاربة الإرهاب، ألا وهو خلق أنظمة وقوانين دولية تجبر تلك المواقع على محاصرة الإرهاب، وما داموا مبدعين فليبدعوا في كبح الإرهاب في مواقعهم.

غالب هؤلاء هم من فئتين؛ الأولى: الليبروإخوان وهم كتاب لا يصنفون أنفسهم مع حركات الإسلام السياسي ولكنهم معه في كل سياساته منذ ما كان يعرف بالربيع العربي، وضد سياسات بلدانهم، بعضهم بوعي وبعضهم من دونه، والثانية: النشطاء والحقوقيون الذين كانوا مطية لـ«الإخوان» آنذاك واستمرأوا الأمر، بينما الإخوان المعتمدون يهددون بالإرهاب في قناتهم من تركيا، ويستنكرون هذه الجريمة ويتفاوضون مع واشنطن كما هي عاداتهم دائما.

أخيرا، إنه ما لم يتمّ تجريم التبرير للإرهاب تشريعيا وتطبيقه تنفيذيا فلن ينتهي الإرهاب ولن تنجح الحروب عليه، والتبرير درجة لا تقل خطورة عن التحريض والتجنيد.

عن الشرق الاوسط