تركيا أردوغان من سياسة «تصفير المشاكل» .. إلى تصفير العلاقات
تاريخ النشر : 2013-11-24 17:31

لم يكن قرار الحكومة المصرية المؤقتة، برئاسة حازم الببلاوي، بطرد السفير التركي في القاهرة، مفاجئا للكثير من المصريين والمتابعين للشأن السياسي المصري، بل لعل البعض يري أن القرار جاء متأخراً، فقد شهدت العلاقات بين القاهرة وأنقرة توتراً ملحوظاً للعلاقات السياسية بين الطرفين، بعد أحداث 3 يوليو 2013 وما تلاها من عزل الرئيس المصري السابق، محمد مرسي، وتقديمه للمحاكمة. ومنذ ذلك الحين تطورت العلاقة سلبياً بين الطرفين بشكل متسارع، وتضمنت استدعاء السفير المصري لدى أنقرة للتشاور، على خلفية التفوهات التي صدرت عن رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، في أكثر من مناسبة، والتي كان آخرها تلك التصريحات التي نقلتها صحيفة "زمان" التركية عن أردوغان قبيل سفره إلى روسيا الاتحادية، حيث قال: "أحيي مرسي على وقفته أمام القضاء". هذا علاوة على استضافة تركيا لعدة اجتماعات للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، في تأكيد تركي واضح على معاداة النظام الجديد في مصر، مخالفةً في ذلك لأبسط قواعد العمل الدبلوماسي.

ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، في العام 2002، اعتمدت تركيا في سياستها الخارجية سياسة "صفر مشاكل"؛ بمعنى تسوية المشكلات السياسية وتصفيرها. واتجهت هذه السياسة بالأساس للعالم العربي والإسلامي، بالأخص دول الجوار التركي، التي حكمت علاقتها بتركيا تفاعلات صراعية امتدت لسنوات طويلة، وصلت في بعض المرحلة لحالة متقدمة من التصعيد. وقد أظهرت السياسة التركية خلال سنوات السابقة على ثورات الربيع العربي، نجاحاً ملحوظاً للسياسة التركية تلك؛ فقد نجحت في إقامة علاقات جيدة مع سوريا، وأبدت مواقف ايجابية تجاه القضايا العربية عموماً والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، وكان موقفها من سفينة "مرمرة"، التي هاجمتها قوات البحري الإسرائيلية وهي في طريقها إلى شواطئ قطاع غزة، ضمن قوافل كسر الحصار على القطاع، قد حظي باحترام واسع أوساط الرأي العام العربي والإسلامي، علاوة على وقوف وزير الخارجية التركي موقف متقدماً في الجمعية العامة للأمم المتحدة تجاه المسعى الفلسطيني للحصول على عضوية دولة"مراقب" في الأمم المتحدة، في سبتمبر 2011، بل ولعبت دور الوساطة بين حركتي فتح وحماس في بعض الأحيان.

وقد وجدت تلك السياسة التركية (سياسة صفر مشاكل) مرتعاً لها بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، في نهاية العام 2010، فبدت تركيا كدولة محورية في المنطقة، ذات النفوذ والسياسة الرشيدة، والتي تسعى لتوسيع رقعة نفوذها عبر موجة التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، وتُظهر حماسها لمساعدة بلدان الربيع العربي على تجاوز محنة المرحلة الانتقالية. فعلى صعيد العلاقة مع مصر "الثورة" مثلاً، كان وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أغلو، قد صرح في صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية في سبتمبر 2011: أن بلاده ستتحالف مع مصر الجديدة لتأسيس ما أسماه "محور ديمقراطية" في الشرق الأوسط بين الدولتين الأكبر في المنطقة، وأن مصر ستصبح محور جهود تركيا في الفترة المقبلة، مؤكداً على أن تركيا ترغب في أن تكون مصر دولة قوية جداً، وذلك من أجل توازن القوى الإقليمي، معتبراً أن هذا التوجه الاستراتيجي يصب في مصلحة بلاده. ما بدا وكأن تركيا الأردوغانية تحاول استعادة مجد خلافتها العثمانية من جديد، عبر ركوب موجة الثورات الديمقراطية في الوطن العربي.

إلا أن السياسية التركية "الطامحة" للعب دور محوري في المنطقة العربية والإسلامية سرعان ما تبخرت، بفعل حرارة الانحياز التركي لصالح جماعة الإخوان المسلمين في مصر. ولم يتورع النظام التركي، في غير مرة، عن مهاجمة النظام المصري الجديد، الذي تشكل في أعقاب الموجة الثورة في 30 يونيو 2013، وكأن نظام أردوغان يخوض معركته الأخيرة في البقاء، فبدا إخوانياً أكثر من الإخوان أنفسهم، أو كمن يُعزي نفسه بعد فقدانه حليفاً رئيسياً ضمن منطقة نفوذه، أو كأنه يتحسس رأسه خوفاً من تكرار سيناريو تدخل الجيش في تركيا لإسقاط حكومته، بما يثير التساؤلات حول جدلية العلاقة بين النظام الحاكم في أنقرة وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، فما هو الشيء الذي خسرته تركيا نتيجة لسقوط الإخوان في مصر وسبب لها كل هذه الحسرة، وجعلتها تتباكى على الديمقراطية المفقودة، وعلى شهداء رابعة الأبرياء؟ وكأن الضحايا الأبرياء في ميدان "تقسيم" في إسطنبول لا حقوق لهم، وبماذا كانت تركيا موعودة في حال استمر محمد مرسي في الحكم، أو المكافأة المتوقعة في حال عودته؟

بات واضحاً، إذن، أن السياسة الخارجية التركية تجاه مصر والمنطقة العربية عموماً ينقصها الحصافة السياسة، فهي تتجه من سياسة " تصفير المشاكل" إلى سياسة تصفير العلاقات مع الدول العربية؛ فمصر ليست لوحدها في ساحة المواجهة بخاصة بعد اتساع رقعة العنف والإرهاب في مصر، الأمر الذي يوفر غطاءً أخلاقياً للحملة التي يقودها الجيش والأمن المصريين تجاه جماعة الإخوان المسلمين، وكانت قبل ذلك قد قطعت صلاتها بنظام بشار الأسد. وعلى المستوى الاقتصادي فمصر ليست بحاجة لتركيا بقدر حاجة تركيا لمصر، حيث تشير أرقام ميزان التبادل التجاري إلى رجحان كفته لصالح تركيا، وعلى الأرجح فإن دولاً عربية عدة يمكن أن تتدخل، وربما تتخذ مواقف متشددة حيال تركيا نتيجة لذلك. وأما على صعيد النفوذ السياسي في المنطقة العربية، فليس خافياً على أحد أن مصر هي بوابته الرئيسية إن لم تكن البوابة الوحيدة.

تركيا هي الخاسر الأكبر من سياستها المنحازة على الدوام لفريق سياسي بعينه على حساب الشعب المصري، فجماعة الإخوان المسلمين لا تمثل الدولة المصري، ولا يمكنها –مهما بلغ نفوذها المالي والإعلامي- أن تُعيد عقارب الزمن إلى الوراء؛ فشعب مصر قال كلمته الأخيرة، وإذا كانت ثورة 25 يناير قد عبرت عن رغبة المصريين في إسقاط مستبد الداخل، فإن ثورة 30 يونيو قد عبرت –ضمن ما عبرت عنه- عن رغبة جامحة في انجاز الاستقلال الوطني، والانعتاق من التبعية للخارج. فعلى تركيا أن تعيد حساباتها السياسية تجاه مصر، وأن تحافظ على نجاحاتها التي تحققت على مستويات عدة خلال السنوات الماضية، وإلا ستجد نفسها في الجانب الخطأ من التاريخ العربي الجديد.