العروبة بريشة كندية
تاريخ النشر : 2014-12-14 10:06

أمس، خرج جدّي الأوّل على رأس قبيلته من الغساسنة من خلف سدّ مأرب نحو الشمال بعدما إنهار السد تحت أسنان فأرة قضمته. واليوم وغداً، يعود حفيدي نحو بقايا السدّ في اليمن قابضاً على الماوسMouse  ليفتح بها نوافذ المستقبل. نعم، استوى جدّي فوق رائحة السمك في بحور الشرق الأوسط راسماً تاريخه بقشّةٍ فوق الصحاري الممتدّة نحو الشمال وتركها لنا مجلدات رملية من التوصيات والتمنيات والمؤتمرات والهزائم تغذّى بها أبناء العرب طلباً لوحدتهم طيلة ستين قرناً! لا تغيير في بقعة العرب سوى في إنتظار الأحفاد. وكانت بيروت، مدينتي مثلاً، التي استقرّت خطواته الأولى فيها، تقول بأنها عاصمة الفكر العربي ومطبعة العرب وجامعتهم ومدرستهم  ومشفاهم ولوحتهم الجميلة الغالية. تصرخ بأعلى صوتها حنجرةً لتلقّف حكام العرب وسياسييهم وكتّابهم وإعلامييهم وشعرائهم ومعارضيهم يراكمون في فنادقها ومقاهيها ومطاعمها وشوارعها التي لا تنام كلاماً جديداً في الديمقراطية والحريّة والموضة والمعارضة والتغيير. وبقيت بيروت بحيرة العرب وحبّة اللوز الأخضر يملّحونها ببقايا الصحراء العالقة فوق شفاههم، بعدما يطفئون شموسهم في نعاسها. لكنّ بيروت كانت الأولى التي تتأهّب للجرح والرحيل. وكانت الطفلة اليتيمة التي لا اسم لها أو شهرة أو ديناً أو مذهباً أو مهنةً، تنافس الجواهر المصفوفة في حقول المعارض والأفكار، وتعتبر نفسها العاصمة المشرقية الرائدة التي تلتفّ حول معصمها مجمل عواصم المشرق العربي. لم تكن تتردّد بالقول بأنها الرائدة في توصيف التنافس والغيرة الفكرية والثقافية التي قامت وتقوم بين عواصم المشرق العربي ومغربه وخليجه. فالمغرب العربي، كان وما زال يعاني من تداخل شرايين الحبر واللسان بين العروبة والفرنجة. يتكوّم المغرب العربي وبلدان شمالي أفريقيا فوق الشاطيء الشمالي لبحيرة الأبيض المتوسط وتحديداً فرنسا حيث تطفو الفرنسية والإيطالية والإنكليزية فوق الألسنة، بينما ينزاح المشرق العربي، اليوم، بالرغم من الإعتدادات كلّها مسلّماً أموره الفكرية والسياسية والثقافية وشعوبه الى مناخٍ من الضياع وفقدان الهويات وضمور الإبداع وضجر الوقت والتلذّذ بالدم. وبين المشرق والمغرب، ينام بعض الكتّاب خلسةً على نهضةٍ تتبعثر في كتابة رسائلها بين بيروت ودمشق وبغداد وعمّان والقاهرة والجزائر وتونس وغيرها. ويبدو الخليج العربي، الذي لم تركن تسميته بعد فوق اللسان الإقليمي ،وفي هدأته المنقوشة بالقلق والحضارة الهادئة، مثل السهوب الكندية الممتدّة أمامي، مع فارقٍ بسيط يضاف الى الفروقات الطبيعية بين القيظ والثلج. تستيقظ هنا في مونتريال أو هاليفكس وغيرها، ولا تجد في عناوين صحفها مثلاً، سوى شكر الحكومات وجوائزها للجمعيّات التي ساعدت العائلات التي تبنّت القطّط الشريدة فآوتها، أو تقرأ تحذيراً لمواطنيها من بعض النباتات والأعشاب الخطيرة التي قد تنبت في حدائقهم الأليفة التي تغمر بيوتهم الزجاجية، فتؤذي بإفرازاتها الصباحيّة العينيين والجلد وكأنّه أذىً يفوق تهديد "إسرائيل" أو الأمن القومي في البلاد المرتجفة في المشرق العربي. قد تقرأ عن الإحتفالات الرسمية بعد زرع الأشجار الجميلة المصفوفة على إمتداد الشوارع تحيي المارّة عند الصباح وفي المساء بخضرتها بدلاً من تماثيل الزعماء الأبديين المنصوبة في الشوارع والساحات المناضلة، وحيث نقرأ في صدور صحفنا المآسي والمجازر والنديب اليومي الذي لا يكلّ في توصيف الفشل والهزائم والشكاوى. نقرأ عن "حضارة" تكديس السلاح وإمتشاقه لقتالٍ عربي عربي وإسلامي إسلامي ومذهبي مذهبي، في زمنٍ تتأبّط فيه إيران ورقة فلسطين والقدس تحثّ بها أنظمة العرب بتصويب الألسنة والأداء في مسائل خطيرة مثل الإرهاب والمستقبل النووي، وقد بات خاتم بنصرها الأيمن الفضّي في المعجن العراقي واللبناني والسوري والليبي والخليجي تنخرط في الحروب والمعارك التي يسهل عليها إيجاد من يقتنيها ويتبنّاها فيحييها دماً أسطورياً للأجيال القارئة القادمة.

أكتب من بعيدٍ بين حبرين: حبر يسيل خلف الدم يغطّيه ويذكيه ويبقي على طراوته، وحبر يخاف من إنحدار الدم فيقطع حيل العرب نزولاً نحو الماء ليطفيء حرارته ويذيب بعض الأحزان والأحقاد السياسيّة والمذهبيّة التاريخية المحشوة فيه. تلك هي مشقّة الكتابة بين الغرب والشرق أو بين مسلمٍ وآخر وعربي وآخر أو فوق خطوط الهزّات العربيّة وفيالقها، بحثاً عن فهم مستقبل بلدان الأوسط المستعصي. يستريح واحدنا في العرب ضجراً في المواقع الإجتماعيّة العربية والأجنبية المعروفة أو يقطن "الفايسبوك" فلا يبارحه متفرّجاً على جماهير العرب النازحين يسكنون ببؤسهم فوق الأرصفة والصور. لا يقرأون لكنهم يرفعون إبهاماتهم منبهرين بكلّ شيء ولو بصوت بدبيب نملة تبشّر بالإستقرار.

إنّه عصر"اللايك" حيث اللمحة بدلاً من القراءة السريعة أو العبور أو المرور في حقلك مرور الكرام في تعليقات تشبه نطف "التويتر" أو أحفاده قبل الذهاب الى مقاعد الحضانة. تعليقات وكتابات تطمح لأن تصل الى العناوين. وفي هذا مرارة أو لذّة يمكن أن يعيشها الحائرون من العرب والمبدعون والكتّاب الذين يقدّسون حركة أقلامهم وأرواحهم المتفجّرة على الدوام. وشاءت المصادفات الحضارية أن تغرينا جميعاً هذه المظاهر الجديدة ، ورحنا نشتغل على نحت كلماتنا العاجزة عن أيّ تغيير، بعدما امتصّت مجلّداتنا كلّ الإبداع بالقطّارة والإشارة، وأجبرتنا لأن نتسابق أصحاب مصانع عريقة للنصوص القصيرة والعناوين. لكن ما أعرق النصّ العربي الذي يصيب النسر بنقطة حبرٍ ولو كان في كبد السماء! وما قيمة الإبهامات المرفوعة أبداً التي تضاعف حنينك الى الشرق.

ماذا يعني عصر "اللايك" بالنسبة لمن يكتب في هذا الشرق الأوسط سوى المزيد من القهر المقيم في غبطة الهدوء والعزلة والرتابة التي تجعلك كلّها، قبل أن تسمّي نصوصك وتشاورها وتنشر بعضها ثمّ توضّبها وتطلقها وتتفاهم حول قرانها ولباسها ومهرها ومستقبلها فتزفّه نحو الناس، سوى الحرص على إثبات القدمين في عروبتك، كما الدول العظمى، كي تحسن الوقوف مكان الخصم فلا تعرّيه أو تحقره، أوتحسن الوقوف في مكانك وعند أرائك وما تؤمن به كي لا يعيّرون فيك فجاجة حبرك أو عرضه للبيع على الأرصفة المتنوّعة المذاهب والميزانيات في بلاد العالم؟

أليس أشقى الكتابة وأصعبها عندما يغطّ العربي ريشته بين حبرين: حبر النفط وحبر الماء إذ يختلطان ببحور الدماء ومحيطاتها في شرق تتكرّر مآسيه برتابة حياة الشيوخ وعجزهم على قيادة المستقبل؟

عن الخليج