طحن النفس وبيانه
تاريخ النشر : 2014-12-10 16:31

يحدث في الصيرورة التاريخية للمجتمعات وفي حركتها دائما صراع بين مختلف القوى التي تتحكم بالحركة الداخلية والخارجية لأي مجتمع، وحين تكون الأزَمَة قد وصلت لذروتها فإن طبيعة الحركة تصبح بحاجة لتوجيه وقيادة وخطة، وحيث لا تتوفر تلك العوامل فالحركة تصبح عكسية في داخل المجتمع نفسه وفي قيادته على وجه الخصوص، يقال أن "الطاحونة تطحن نفسها حين لا تجد ما تطحنه"، وهذا بالتأكيد قانون طبيعي، فإذا كانت القيادة بلا وسائل محددة لبلوغ خطتها أو كانت هذه الوسائل ليس لها علاقة بحركة المجتمع نفسه، فإنّ صراعاتها الداخلية ستؤدي حتما مفهوم طحن النفس والذات.

هناك فرق بين الأزَمَة والأزْمَه، فالأولى بحاجة لخلية قيادة قادرة على إيجاد الوسائل الملائمة التي تؤدي لتخفيف حدتها أو الخروج منها، والثانية هي مرض مُزمن لا علاج له سوى التسكين حتى يصل لذروته ويقضي على حامله...ما يعانيه الواقع القيادي الفلسطيني هو من نوع الحالة الثانية مما سيوصل ذلك الواقع لذروة طحن النفس القيادية وإنهاء تلك الحالة ليحل محلها شكل جديد ونوع أكثر جدية وشبابيه، فحركة الناس في مجتمعاتها ليست سوى عملية تغيير تسير ببطء شديد من جهة، ومن جهة أخرى فهي إحدى القوانين التاريخية بأن نهاية الشيء هو البداية لشيء جديد تكون ملامحه غير واضحة المعالم في البدايه، لكنه يتبلور ويأخذ شكله الجديد ليحل محل القديم البائس الذي وصل ذروته ولا يستطيع أن يُعيد تشكيل نفسه أو تطويرها بما يخدم مفهوم الإستمرارية. إنه قانون وحدة وصراع الأضداد، فكل ظاهرة تحمل في داخلها بذرة فنائها، فالتناقضات دائما تعيش معا، لأن الأصل في الطبائع التضاد الداخلي، وهذا بالضرورة سيؤدي وفق هذا المفهوم لبروزها في لحظه معينه بقوة مما يعني نشوء بذرة جديدة وتناقض جديد.

هذا يمكن عكسه في الحالتين الراهنتين للواقع المعاش على الأرض الفلسطينية التاريخية، فالقيادة "الإسرائيلية" اليمينية تعيش عكس الواقع وتسير في إتجاه لا عودة ممكنه بسببه للخيارات التي يتم التفاوض عليها وأهمها مفهوم "الدولتين لشعبين"، بل إن الحديث اليميني عن ضم الضفة الغربية خلال أربعين سنة يعكس الحقيقة الغائبة عن عقول المتصارعين في الجهة المقابلة من تلك الأرض التاريخية التي تُنازع نفسها في مفهوم البقاء والصراع الذاتي الداخلي، ومع أصحاب القوة على الأرض الذي يمثلها الإحتلال، وهذا بالضبط يحقق مفهوم طبائع الأضداد الداخلي الذي يرتد ليصبح صراع مع المحيط الخارجي بشكل يعزز ذاك التناقض الذي سيؤدي لمفهوم "نفي النفي"، حيث سينفي البعض نفسه لصالح بعضاً غير واضح المعالم بعد لكنه سيعلن عن قدومه وظهوره في اللحظه التي يصل فيها التناقض للحد المعياري الذي لا يسمح ببقاءه على ما هو عليه، فالتراكمات الكمية البطيئة التي تجري داخل طرفي المعادلة بين البحر والنهر وحولها في المحيط المُتفجر ناراً لأسباب داخلية سُعّرَت بأيادي دولية وإقليمية حولتها من محاولة بناء إلى معاول لهدم البلدان وتدميرها، سوف تصل حدّها المعياري الذي سيؤدي لتغيير كيفي برغم عدم الإشاءة.

ليس كل ما نراه ظلام في ظلام، وليس كل ما يجري نهايته موت الذات وسيطرة التخلف والرجعية على مقدرات المنطقة، فالضرورة الحتمية توحي لمن يرى الغد شروق شمس لم تراها منطقتنا منذ أن قام سيد البشر النبي "مُحمد" صلوات الله عليه وسلم بتوحيد العرب على دين واحد، فالصراع تخطى الحدود الوطنية التي هي حدود وهمية "سايسبيكية" ولم تكن يوماً خياراً شعبيا، الظلام والرجعية والتخلف والإحتلال يتحالف مع بعضه البعض، تحالف فوق الحدود لفرض حدود جديده بتقسيمات على هويات مزعومة لا أساس متين لها ولا يمكن أن يُكتب لها الحياة، وفي الجهة المقابلة تحالف آخر تشكّل ويتشكّل أيضا ويتسع نطاقه بشكل عرضي كنتيجة حتمية للدفاع عن النفس قبل الوعي بأهميته.

إنّ النتائج مرهونة بما يجري من تناقض حاد داخلي وخارجي، ومرتبط بتلك التراكمات الصغيرة التي أصبحت الآن كبيرة لدرجة عدم التصديق، لكنها لن تظهر واضحه لا لبس فيها حتى يصل هذا التناقض لما يُعرف ب "الحد المعياري"، فالماء حده المعياري درجة الغليان "100"، وفي المجتمعات العربية الدماء التي تسيل وتسيل حين تصل للغليان ستنبت واقعا جديداً وقيادة أكثر قدره على إعادة مزج كل الدماء التي سالت في قالب جديد يتجاوز حدوده القديمة وتقسيماته الغربية، وحتى إنني أجزم بدون إحتلال ومحطات بنزين سائدة، قال تعالى في الآية "16" من سورة "القيامه" ( لا تُحرّك بِه لِسَانَك لِتَعْجَل بِه).