القدس في قرطبة
تاريخ النشر : 2014-11-25 21:17

(1)
أُمُّ المدائنِ ،
أو مُسْتَقَرُّ الخِلافةِ والأرجوان ،
والسِّحْرُ في حَجَرِ الوردِ والماءِ ،
والشجرُ الحالمُ اليَقِظُ المرمريُّ ،
مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ ،
تبدو لنا شَهَقاتُ المآذِنِ ،
من حيثُ تدخلُ ،
أَنَّ الصلاةَ بها ألفُ وَقْتٍ ،
لِطيْرِ الحَمامِ وغيْمِ الجِنان .
تقولُ كأنَّ الذي قد أقامَ المعابدَ
والواجهاتِ ، وأقواسَها العالياتِ ،
وأَدْراجَها ، كسلاً للطريقِ ،
هو الجَان !
أو أنَّ بعض الملائكةِ الحالمينَ
أتوا بالمياهِ إلى فَنَنٍ نائمٍ
في ارْتخاءِ المناديلِ والموجِ ،
كانوا يُنادون بالدَّمْعِ مَنْ رفعوا
بابَها .. للزمان .
كانت بِجامِعها أجملَ الأرضِ ،
في آيةٍ أنْزَلتْها ، إلى الناسِ ،
آلهةُ الحُسْنِ ..
قُرْطُبةُ العَرْش !
والنُّورُ أندلسُ الأُمويِّ ، الذي
حَلَّ في ذَهَبِ الأُقحُوان .
وكانَ .. ما كان !
فَيْضاً من اللؤلؤ البِكْرِ ، في رَحِمِ الخَلْقِ
قد مكَّنَتْهُ الخيالاتُ كي يرتقي سُلَّماً
للبروج ، على أُفقٍ من حليبٍ ،
فجاءَت ، كما شاءَ ، رسْماً
على غُرّةِ البَيْلَسان .
والزّمانُ ، هنا ، اثنان ؛
شِعْرٌ وخيلٌ وموقدةٌ للنجومِ ،
وصفصافُ عُرْسٍ أفاضَ على غابةِ المسْكِ
بالصَّحْبِ ،
والعودُ مشتعلٌ بالقيان ،
والدَّنُّ ممتلئٌ بالندى للغُصُونِ ،
التي رَقَصت كالدّخان ،
فكان الغناءُ
الموشَّحُ بالماس والكهرمان .
والزمانُ ، هنا ، اثنان
ليلٌ غريبٌ ثقيل الخُطى ،
زائغٌ شبحٌ يرتجي نَهْبَ فردوسِها ،
بعد أنْ جاء كي يأخذَ الحَرْفَ
و الترجماتِ ، وما أنتجتُه النوارسُ
في شاطئ الغجرِ البربريّ ،
حتى أضاءَ المدى بالنخيلِ ،
من الشامِ برّاً إلى مصرَ فالقيروان ..
ومن ساحل الفَتْحِ حتى المضيقِ
ليعبرَ صَقرُ الإمارةِ فوقَ الحصان .
ويبني مع الجَمْع قَصْرَ الحكايةِ ،
من قبل أنْ يكشفَ الذئبُ
عن شهوةِ اللحّمِ
في عتَماتِ الدهاليزِ ،
والبحثِ عن جِنسِ مَنْ عَلّموُه البيان .
وكان ..
ما كان غيرُ الحريقِ ، الذي
أكل الحقلَ من أوّل الرملِ
حتى الشواشيَ في آخر الصَّخرِ ،
هذا جزاءُ سنّمار يا مَنْ تأصّلَ
في الجامع الأمويّ ،
وأصبحَ خَلْقاً جديداً ..
فهل يا تُرى سوف تذكرُ
أن هلاليَ كان الضياءَ ،
الذي ظَلَّ مُنْسَرباً
في الصليبِ أو الشمعدان !
فكيف ترىَ وجْهَ قُرطُبةَ الآن ؟
وكيفَ بآلائِها تَكْذِبان ؟
(2)
لو انَّ " سينيكا " أتى لبكى ،
وقد يتراءى له في تأمُّلِهِ ما يفعل المُـلْكُ
بالأخُوةِ الكارهين !
وما يفعلُ آبنُ زيادٍ ورمحُ مُغيثٍ
ومَنْ وَحَّدوا ربّهم ،
وأعادوا لها دارهَا ،
إنْ أتاها الملوكُ ، وقد دَجَّنوا أهلَها ،
قبل أنْ يَلِجوا في المُسمّى " مديخار " ؟
أو بعد أنْ يبحثَ الغرباءُ عن الوجهِ والدِّين !
قد سقطت دولةُ العشقِ !
والرَّوضةُ الآن في دَمْعِ زهرائِها ،
أو دمٍ لا يجفُّ على نُزُلٍ
مثل سبعةِ أبوابها ،
حول روحِ حدائقها ،
في صحونِ مساجدها ،
عند حصنِ نفائسها ،
خلف إيوانِ جامِعها ،
قُرْب ليمونِ حضرَتها ،
في تلافيفِ صدفتها ،
بعد مقصورةِ المنْبَرِ المُرتوي
بالنواعيرِ والشمسِ
ونارِنْجِها ،
أو بِسِرْبِ فراشاتِها ..
وابنُ رُشْدٍ يقلّبهُ العقلُ والنَقْلُ
في وَقْعِ ألوانِها ،
وابنُ حَزْمٍ بِطَوْقِ حمامتِه يرسمُ العاشقيْن ؛
( ولاّدةً وابنَ زيدونَ )
والظلُّ ريشتهُ في جناحين من وَلَهٍ ،
كي يطيرَ ابنُ فرناسَ في حضرةِ القُرطبيّ
أو الغافقي ..
وزريابُ يبني
على أُغنياتِ الطيورِ جُسوراً
لنهرِ " بيتيسَ " أو يعقدُ اللّحنَ
في عروةٍ للخلودِ ، فتمشي إليه القناطرُ ،
من وادِها ،
كي تَبْلُغَ الروحُ لحنَ الرجوعِ إلى الغائبين .
وابنُ ميمونَ يأخذُ من منْجمِ الضادِ
ما يجعلُ الرّوحَ أكبرَ
من لَوْثَةِ التائهين .

والقدسُ مثلُ قرطبةَ ، الآن
نصفُ غائبةٍ .. حاضرة ،
منهكةٌ ساحرة ،
رابحةٌ خاسرة ،
جنّةٌ ثائرة ..
ولَهَا زفَّةُ الياسمين .
(3)
والشاعرُ في إغفاءتِهِ ،
يغسلُ أثوابَ قصائدِهِ ،
فتمور أراجيحُ الشيطانِ ،
وتمتدّ من النهر إلى غاباتِ الغيمِ ،
ويقطفُ تفاحتَه الأحلى ،
فيرى أدغالَ السُلطانةِ " أورورا " ..
ويكاد المشهدُ أنْ يكتملَ ،
ليطفحَ كأسُ الشُرفاتِ على الغَيْبِ ،
ويصحو الهاجسُ ؛
قرطبةُ الذروةُ ، فلتهبط أنجُمها للطين ،
فإن نضجَ الكَرْمُ ستسقط
حبّاتُ التين ،
وإنْ ثملَ الماءُ من النارِ ،
سيشرَبُه التنّين !
وهذا الإكليلُ على رأسِ الزهراءِ حزين !
فيا قُرطبةُ ! متى نصلُ القدسَ ؟
لنعرفَ أنَّ التفتيشَ عن الكامِنِ
في الاضلاعِ ، سيأخذُنا بالشُبْهةِ
للمذبحِ ، ثانيةً ، أو ثالثةً أو ألفاً ..
والعالَمُ لا يسمعُ ، لا ينطقُ ،
لا يتراءى في عينيه سوى
ما شاء ..
فكوني يا قرطبةُ بكاملِ زينَتِك ،
ليأخذكِ القشتالُ إلى السكِّين !
هنا المدنُ الضائعةُ على مدّ الخارطةِ ،
فهل سيجيء الشاعرُ بعد قرونٍ أُخرى ،
ليرى في قرطبةَ القدسَ ؟
وإيقاعَ الشِّعرِ سَويّاً ،
والقاعةَ حُبلى بالناسِ ،
وقصر الحاكمِ ذاتُ السورِ
وذاتُ السّين ؟
سلاماً يا غربةَ شاهِدِكِ الحيِّ ،
سلاماً للموتى الماشين
بلا قنديلٍ
للظُلماتِ إلى صِفّين .
سلاماً للأبواب ، الثامنِ والتاسع .. والعشرين
سلاماً ، والأصداءُ على الأقواسِ
من الأجراسِ إلى الأعراسِ ،
إلى الأيقونةِ ،
والجدرانُ هي " الكازارُ "
فلا زهراءَ ولا أسوارَ
ولا غرناطةَ .. أو حطّين !
و هذي أعرافُ الفَرَسِ المهزومةِ
في الحربِ ،
ورقْصةُ من عادوا ثانيةً للقتلِ ،
على دَفِّ " الفلامِنْكو " !
فاستمعي يا قرطبةَ السِّحْرِ
إلى أنغام الرُقمِ الطينيِّ المحروقِ ،
على جَنَباتِ خرائبِكِ ،
هنا بابلُ أو بترا ،
والقدسُ هنا إن بقيَ ملوكُ القدسِ ،
وأَسألُ : هل كانت أندلساً حقاً ؟
نينوى ؟
يا لها !
لم تَعُدْ سورةُ الزُخْرفِ الآن ،
في سِفْرِها !
كان عَرْشٌ وبَهْوٌ
وسيفُ الصقالبةِ الحازمين ،
وأحواضُ زئبِقها الرّخوِ ،
والجنْدُ والدارُ والعاجُ والأبنوسُ ،
أو النقشُ والتِبْرُ ،
والبدرُ إنْ ذابَ في هَدْأةِ الساهرين..
وسَبْعٌ وريمٌ و أفعى ،
وطيرُ العقابِ ، ووفدٌ من الفقهاءِ ،
وبعضُ الحجيجِ وتجّارِها المارقين ،
وسربٌ من الشعراءِ الذين
أتوا من نِفاقِ الموازين ،
أو تلك التي راوغت قلبَها ،
وآبنُ أبي عامرٍ سوف يبني له مَدْرجاً
للحنين ،
إلى أن يُحَرِّقها الحقدُ في الدَّاهمين ..
سلاماً ، إذاً ، للتماثيلِ والعنبرِ الذهبيِّ
على بابِ " إقباءَ " في الأوَّلينَ
وفي الآخرين .
وشكراً .. لأيّامنا في السنين .