محاولة اغتيال محمود درويش
تاريخ النشر : 2013-11-16 10:58

لم يكن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش غائباً عن الأحداث الأخيرة في الوطن العربي، إذ وظف شعره دعائياً وتعبوياً في مختلف الإذاعات والفضائيات والمسيرات المعارضة وتلك الأخرى الوؤيدة والرسمية. وهذا ليس مستغربا لأسباب عدة، ربما كان أولها أن شرائح واسعة من الشعب العربي لاسيما جيل الشباب يمثلون جمهوراً شعرياً هاماً للشاعر درويش. وآخرها أن أي نص هو بنية مفتوحة على قراءات متعددة، فما بالك بنص شعري وبشاعر استطاع أن يحول القضية الفلسطينية إلى مجاز شعري يتجاوز حدود المكان والجغرافية إلى العالمية. ليصبح الهم الفلسطيني هماً إنسانياً عاماً.

تعرض محمود درويش إلى كثير من النقد والانتقادات خلال صيرورته الشعرية، وحتى بعد رحيله طالما بقي مشروعه الشعري مكوناً أساسياً من مكونات الثقافة العربية. آخر هذه الانتقادات (ولا نقول النقد) صدرت عن الشاعر السوري محمد خالد الخضر («مجلة الأزمنة»، العدد 375- 10/11/2013). فتحت عنوان: «تداعيات الوطن وانهزام القصيدة عند محمود درويش» يكتب الخضر مقالاً توقعنا من عنوانه الكبير، والخطير أيضاً، أن نجد أنفسنا أمام نقد موضوعي محكم ورصين تقع على عاتقه مسؤولية تلك النتائج الكبرى التي حملها عنوان المقال، لاسيما وأن كاتب المقال هو شاعر تعرفه المراكز الثقافية المنتشرة في كافة محافظات القطر العربي السوري.

يبدأ الخضر مقاله باقتباس من قصيدة لمحمود درويش «عندما يبتعد» وهي من ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً» (1995): (في كوخنا يستريح العدو من البندقية,/ يتركها فوق كرسي جدي. ويأكل من خبزنا/ مثلما يفعل الضيف. يغفو قليلاً على/ مقعد الخيرزان. ويحنو على فرو/قطتنا. ويقول لنا دائماً:/لا تلوموا الضحية!/ نسأله: من هي؟/فيقول: دم لا يجففه الليل.). بعد هذا المقطع المتجزئ من القصيدة يتوصل الخضر إلى استنتاج سريع مفاده: « تبدو الحالة النفسية التي تنتاب محمود درويش في مرحلة أخرى من عمره قد تغيرت وأصبح يفكر بشكل يحفظ له ما يبدو في ذهنه وما يجمح في خياله فلا يمكن لمحمود درويش الذي بنى قصص الحب والهيام أن يكتب غير هذه الكلمات والتي ابتعدت كلياً عن منظومته الشعرية وبدت جافة ولا عاطفة لها ولا نغم يقودها إلى الوجدان» حتى هنا يبدو هذا أنه يندرج تحت النقد الفني والجمالي للقصيدة، وبالرغم من ركاكة تراكيبه وخلوه من أدوات للنقد سنعتبره كذلك ولن نعقب عليه. يتابع الخضر: «فهي محض كلام يحمل دلالات الذاهب إلى الصلح مع الجلاد وتحوير مظاهر القتل والدمار إلى حالات شبيهة بتلك التي وصفها في قصيدته الآنفة وأراد أن يصنع من الجندي الصهيوني بطلاً مسالماً طيباً» ولا ندري ماهي الطريقة التي يقرأ بها شاعر كالخضر الشعر.

لنتابع معاً بعضاً من نفس القصيدة لم يشر إليه كاتبنا، يقول درويش:( فلماذا يزور الضحية كل مساءٍ؟/ ويحفظ أمثالنا مثلنا,/ ويعيد أناشيدنا ذاتها,/عن مواعيدنا ذاتها في المكان المقدس؟/ لولا المسدس / لاختلط الناي في الناي/ لن تنتهي الحرب مادامت الأرض/ فينا تدور على نفسها!) إلى قوله: (ثم يخرج من كوخنا الخشبي،/ ويمشي ثمانين متراً إلى/ بيتنا الحجري هناك على طرف السهل./ سلم على بيتنا يا غريب./ فناجين/ قهوتنا لا تزال على حالها. هل تشم/أصابعنا فوقها؟). أو ليست الطيبة هنا مشروطة بزوال المسدس، وإلا سيبقى الفلسطيني هو الضحية ويبقى الإسرائيلي هو الغريب؟ ألا يعرف هذا الغريب أنه يدخل بيتنا الحجري (القديم) الذي لايزال يحتفظ بطعم قهوتنا؟ الحرب لن تنتهي طالما بقينا على هذه الأرض ضحية وجلاداً.

يتطرق الخضر إلى قصيدة درويش «جندي يحلم بالزنابق البيضاء» وهي من ديوان «آخر الليل» (1967)، لكن اسم القصيدة يرد في مقال الخضر "جدي يحلم بالزنابق البيضاء" ليسوق الشواهد الاتية: (حدثّني عن حبه الأولِ،/ فيما بعد/ عن شوارع بعيدهْ،/ و عندما خبأ في منديله سعلته/ سألته: أنلتقي؟/ أجاب: في مدينة بعيدهْ.) هنا ، وليس سهوا يسقط الخضر شطرين متتاليين من هذا المقطع يقعان بعد الشطر الثالث، ونترك لفطنة القارئ أن يستنتج لماذا تعمد كاتب المقال اسقاطهما، هذان الشطران هما:( وعن ردود الفعل بعد الحرب/ عن بطولة المذياع و الجريدة). ثم يسوق شواهد أخرى من نفس القصيدة: (و كان صوت أمه الملتاع / يحفر تحت جلده أُمنية جديدة :/ لو يكبر الحمام في وزارة الدفاعْ/ لو يكبر الحمام!). يستنتج الخضر أن هذا الحمام ما هو إلا حمام شارون وباراك ونتنياهو، «وماذا يريد اليهود إلا أن يصل محمود درويش ومريدوه إلى هنا». يستمر الخضر في الإصرار على قراءة محمود درويش انطلاقا من أفكاره المسبقة، فهو يضع النتائج ليستقي مقدماتها لاحقاً. لكن ماذا يقول "اليهود" وكاتبنا في باقي القصيدة؟ فحين يسأل الشاعر درويش الجندي عن أرض فلسطين، يجيب الجندي أنه لا يعرفها: (ولا أحس أنها جلدي و نبضي/ مثلما يُقال في القصائد/ و فجأة، رأيتها/ كما أرى الحانوت..و الشارع.. و الجرائد/ سألته: تحبُّها/ أجاب: حبي نزهة قصيرةً/ أو كأس خمر.. أو مغامرة/ - من أجلها تموت ؟/- كلا!/ و كل ما يربطني بالأرض من أواصر/ مقالةٌ نارية.. محاضرهْ!/ قد عَلّموني أن أحب حبّها/ و لم أحس أن قلبها قلبي/ و لم أشم العشب، و الجذور، و الغصون/ - كيف كان حبّها/ يلسع كالشموس ..كالحنين؟/ أجابني مواجهاً:/- و سيلتي للحب بندقية/ وعودةُ الأعياد من خرائب قديمة/ و صمت تمثال قديم/ ضائع الزمان و الهوية !). فهل إجابة الجندي في هذا الحوار هو ما يريده "اليهود" أو يسرون لسماعه؟.

من الطبيعي أن يثير البعد الأخلاقي والإنساني الذي تحمله قصائد درويش بأسلوبها الرمزي خلافاً حاداً فلسطينياً وعربياً لاسيما عند الجمهور الأقل ثقافة أو عند غير المختصين الذين من السهل أن تجرفهم الحالة "السياسوية" التي لا ترى في الثقافة عموما إلا السياسي مبتدأ ومنتهى، فتميل بحكم طبيعة خطابها الجماهيري إلى المباشرة بما يخدم أهدف التعبئة. لقد انحاز درويش إلى الأدب الحقيقي الذي يتوجه إلى الإنسان فيدافع عن القيم العليا التي تفضح عنصرية المستبد والمحتل. فالطرف الأضعف لا يستطيع أن يسلك في صراعه مع الأقوى ذات مسلكه وأن يستخدم نفس أدواته، بل عليه أن يميز حقه بقيم ومعايير مختلفة عن تلك التي يتمثلها عدوه، وكلما كان العدو لا أخلاقياً كان عليه أن يتمسك أكثر بالقيم الأخلاقية، فلا يمكن أن تكون ضعيفا ولا أخلاقياً في آن معاً. هذا يرتبط بجوهر الصراع الحضاري بيننا وبين الكيان الصهيوني. لقد استطاع محمود درويش أن يصل بقضية فلسطين إلى العالمية لا لأنه قد صور العدو بالبطل المسالم الطيب، كما فهم الخضر من قراءته الخاطئة أو الماكرة، لا فرق. بل لأنه التزم الكلمة الجوهرية الدقيقة ولم يجعل من قصائده شعرا دعويا مزاودا ومزايدا مفعما بالحماسة الزائفة التي سرعان ما تزول في مرحلة معينة، ويزول معها مفعول الشعر والشاعر، كما حصل مع كثير من شعراء الحماسة، أو أولئك المتسلقين للحالة المتلونين بألوان المرحلة. فهناك فرق بأن تكون القصيدة مجرد حالة وأن تكون مشروعاً حضارياً وإنسانياً. في الثانية فقط تكمن الاستمرارية.

لا يستغرب الخضر سعي محمود درويش من تحويل صور القتل والدمار إلى صورة العدو البطل الطيب المسالم، فيقدم نفسه كمن يكشف لأول مرة تاريخ الرجل السياسي بانتمائه في الخمسينات للحزب الشيوعي الإسرائيلي ليعمل مع الرفاق العرب واليهود "المتخاذلين"، ليتتلمذ على يد عضوي الكنيست الاسرائيلي (توفيق طوبي وإميل حبيبي). إميل حبيبي الذي هو إلى جانب جبرا إبراهيم جبرا أحد أهم أعمدة الرواية الفلسطينية والعربية والذي رفض الخروج من فلسطين تحت أي ظرف وأوصى أن يكتب على قبره (باق في حيفا)، قد نتفق مع بعض مواقفه السياسية وقد نختلف مع أكثرها لكن لماذا نخوّنه؟ بسبب شيوعيته أم بسبب كونه عضوا في الكنيست؟ أم بسبب قبوله قرار التقسيم؟ أليس ما يعرض اليوم على الفلسطينيين أقل مما عرض عليهم في قرار التقسيم؟ وماهو الفارق بين رفض العرب لقرار التقسيم وقبولهم لقرارات الأمم المتحدة الأخرى كالقرارين 242 و338؟ ماذا يقول الخضر في الآخرين من العرب الذين حازوا عضوية الكنيست، كأحمد الطيبي مثلاً؟ وما هو موقفه من فلسطيني الأراضي المحتلة عام 1948 عموما، الصامدين في وجه محاولات الإلغاء والتهجير من قبل العنصرية الإسرائيل بكافة الوسائل المتاحة ومنها النضال من داخل الكنيست الاسرائيلي واللجوء إلى القضاء الإسرائيلي أو إدارة قراهم وشؤونهم من خلال البلديات والهيئات المنتخبة؟ أليس من حقهم الكفاح بوسائل تتناسب وخصوصية وضعهم كأقلية دون وصاية نضالية من أحد؟ أليس من حق كل فلسطيني أن ينحاز إلى حل الدولتين أو أن يرى الحل في دولة ثنائية القومية أو أن يعتقد أن فلسطين هي ذاك الممتد من النهر إلى البحر أو من البحر إلى النهر؟ لقد أدان محمود درويش قبول إميل حبيبي لجائزة الإبداع الإسرائيلية لكنه لم يطعن به، واستقال من اللجنة التفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية تعبيراً عن رفضه لاتفاق أوسلو ومع ذلك لم يخوّن أحداً. هذا السلوك الحضاري لاشك أنه ينسجم مع أخلاقيات شاعر بحجم محمود درويش و التي لا ينال منها أو من وطنيته إيمانه بحل الدولة ثنائية القومية سواء أعلنها صراحة أم مواربة.

لاتقف المسالة عند التعسف والعسف في النقل وعدم الأمانة والافتقار إلى الدقة في النقل، بل تتعداها إلى ادعاء فض كنه المؤامرة الكامنة في "المنظومة الدرويشية": «إن الدعاة الذين يتكلفون سرا بمنظومة محمود درويش بدأت أصابعهم تلعب ناشطة في الخفاء منذ أن أطلقت سوريا مشروعها النهضوي في الحفاظ على اللغة العربية وثقافتها وتبني مشروع ثقافة المقاومة وتحرير الأرض لأن محمود درويش تمكن من العمل على تأسيس نسيج ليس بالقليل على مستوى الوطن العربي ظاهره يختلف عن باطنه مما ساعد نشاط هذه الظاهرة في الآونة الاخيرة بدعم من الغرب والولايات المتحدة الاميركية وبتخطيط من الموساد» هكذا وبجرة قلم يصبح المشروع الدرويشي على طرف النقيض من المشروع النهضوي السوري في الحفاظ على اللغة العربية وثقافتها، وعلى الطرف النقيض من مشروع ثقافة المقاومة والتحرير. لكن يحق لنا أن نتساءل: أين كانت وزارات التربية في الوطن العربي والقيمين على النظام التربوي التعليمي الذي هو عماد ثقافة المقاومة، حين ضمّنت وتضمّن مناهجها الابداع الشعري لمحمود درويش كنموذج تعليمي، وتضعه ضمن فئة شعراء المقاومة؟ لقد احتضنت دمشق محمود درويش، فلم يخذلها يوماً. ولطالما تغنى بها مجداً وحضارة وذاكرة، ليعيد تشكيلها إبداعاً شعرياً وجد طريقه إلى قلوب ملايين السوريين، ولا نبالغ إذا قلنا أن درويش أحد روافد الوعي القومي لدى السوريين. فلماذا يريد البعض تشويه تلك العلاقة الجميلة بين الشاعر ومدينة العشق والياسمين؟

محمود درويش أو غيره ليسوا فوق النقد. لكن هناك فرق بين النقد والهجاء، وبين النقد والتخويين؟ المشكلة أن الإساءة لاتقف عند محمود درويش شعرا وشاعرا، بل تمتد لتشمل جمهوره الذين يرفعوه كشعار «في فاتحات همومهم وأفراحهم أولئك الذين يتنفسون برئة مخمورة يملأها التبغ والسعال والخمر والجنس» هنا علينا ان ننتظر من الخضر مقالاً على ما يبدو عن الإباحية في شعر محمود درويش وأثرها على انحراف جمهوره!!!

لقد خذل درويش قضيته منذ زمن وها هو قوله الشعري وبالأدلة القاطعة التي ساقها الخضر يرزح تحت أقدام الأقنعة الثقيلة، فهل نشكره على خلاصنا من وهمنا وخلاص مثقفينا من سطحيتهم؟ أم على هذه المحاولة المحمومة لتخليص الشعر العربي من الطغيان الدرويشي؟ ربما من حق بعض الشعراء الذين ظلمهم هذا الطغيان الدرويشي فرصة للظهور على الساحة الثقافية، لكن تلك الغاية لا تبررها هكذا وسيلة.

يتألم الخضر لأن محمود درويش لايزال لسان حال المحرومين« ولعل أكثر ما يزيد الألم ألماً أن يظل درويش صديق الحزانى والأيامى والمساكين والمظلومين ولابد من أن يأخذهم إلى ذلك المكان التي أخذت إليه تسيبي ليفني صائب عريقات وسواه». الأمر متروك للقارئ ليحكم بنفسه على مستوى ما يقدم على أنه نقد. هكذا يستمر الخضر في الهجوم على رموز الثقافة والسياسة الفلسطينيتين، من أميل حبيبي إلى محمود درويش والآن صائب عريقات. ولا ندري ما هو ثمن هذا كله؟ الخضر الذي يحاول أن يخلص الجمهور الدرويشي من الوهم الذين هم فيه يسبقهم إلى الإيمان على الطريقة الشعبية بالشائعات حول علاقة حميمة بين ليفني والدكتور عريقات. ولا أدري كيف يراد لشائعة كهذه أن تنال من عريقات وهي أساسا تتناقض مع "الأيروتيكا" العربية التي تمجد الفحولة والفعل في العدو لا العكس!

أما ما يلمّح إليه الخضر من توظيف للتراث اليهودي، كما فهم صاحبنا من خطاب درويش الشعري إلى سارة "اليهودية" التي تقام تحت ظلال حاجبيها الأعراس، فهو ليس بالأمر الجديد، فقد وصفه البعض بالشاعر اليهودي المتنكر بالزي الفلسطيني. محمود درويش الفلسطيني اللاجئ الذي ضاقت به الأرض أراد توسيع أفق القصيدة، لذلك أضاف إلى الموروث العربي الإسلامي والمسيحي موروثاً يهوديا، انطلاقا من إدراكه أن خصب القصيدة يتأتى من تعددية العناصر التي توظفها وتعيد صياغتها. لذلك يمضي محمود درويش في توظيف التراث البابلي والآكادي والحثي والكنعاني والإسلامي والمسيحي واليهودي.... إذ أن أي هوية ثقافية أحادية العنصر تنهزم أمام خصمها قبل أن تنال منه. ولابد من القبض على العدو ثقافياً لتصبح هزيمته ممكنة.

يبدو أنه بات من المطلوب اليوم أن نغتال درويش بدل أن نتجاوزه شعرياً لأسباب عدة، ربما كان أحدها، أن يترك الباب مفتوحاً للمشروع البديل الذي يجعل من قصيدة ما موقفاً سياسياً ومن موقف سياسي قصيدة، وهنا تحديدا تكمن هزيمة القصيدة.