الهجرة.. ميلاد المجتمع الإنساني الحضاري
تاريخ النشر : 2023-04-01 16:01

عندما وصل الاشتباك إلى لحظة النهاية وحددت قيادة قريش طبيعة فصلها الأخير.
خرج الرسول عليه الصلاة والسلام في لحظة حاسمة من ميدان معركة خطط العدو لنهايتها الى ساحة أخرى يحولها هو الى مستقبل عظيم -حسب خطته ومنهاجه- لفكرته.
انها خطوات إستراتيجية في إطار الوعي بالصراع ومراحله وفي اطار توفير شروط الفعل الايجابي.. بعيدا عن أي معركة تغير طبيعة الصراع أو أن تنقله الى صراع ثأر أو انتقام.

اللحظة التاريخية الفاصلة:
بلغ غيظ قادة قريش مداه وقد فشلت كل أساليبهم في إحباط دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وسقط حصارهم بعد الحصار و قد بلغ منهم الحنق أقصاه وأسقط في أيديهم وفقدوا الحكمة تماما وتراكمت لديهم الخيبات فكان ان استقروا على الفعل الشنيع.. هذا فيما اخترقت فكرة الحرية والكرامة التي أطلقها الرسول الواقع السميك ووصلت الى أطراف الأرض التي اهتزت لها قلوب الناس وربت، وأصبحت كدوي النحل في المحافل والملتقيات.. وتعاظمت تساؤلات قلقة مترقبة في القبائل وجهات الجزيرة بل وفي قلب قصور الإمبراطوريات يتساءلون عن دعوة النبي الجديد وعن عجز قادة قريش في المواجهة ولجوئهم الى ابشع الوسائل.

وبلغ جهد الرسول مداه في دعوة قريش الى ما يحييها: من ترك الظلم وتحطيم الأصنام والانعتاق من الأغلال، و من التمسك بمبادئ الأخوة الإنسانية.. و لم يترك فرصة لنشر فكرته وتعميقها في قلوب المؤمنين بها إلا نهض لها بعزم وفدائية وتخطيط.. 13 عشر عاما من الدعوة الواعية المكثفة الداعية للتأمل والتدبر والاستقامة التي لم تهادن ولم تساوم كانت دعوة مستمرة لإعمال العقل واستنهاض الضمير الإنساني والفطرة السليمة.. حتى وصلت دعوته الى كل بيت وقد لحق به من كل العائلات وكل الطبقات وصهرهم في بوتقة الأخوة الجديدة برابطة الإيمان.

الان ها هي لحظة الفراق المادي الواقعي الحتمية بينه وقيادة أصرت على أن تنهي الصراع معه بقتله ولأن الأمر صعب حيث ال النبي الكرام يمنعونه ويدفعون عنه فكان الرأي في قريش وبئس الرأي ان يجتمع عليه من كل قبيلة رجل فيتوزع دمه على القبائل..

هنا لم يبق متسع من مناورة وقد استنفذ الوقت كله واستنفذ حكمة قريش كلها فكان لابد من الهجرة.. ولكن الرسول العبقري القائد الممتاز كان يضع في حسبانه -من قبل- كل شيء ولقد مهد لمثل هذا اليوم المتوقع وانشأ قواعدا متقدمة من رجال مؤمنين رسم لهم معالم المستقبل وقد وثق معهم الصلة في يثرب.. هم الآن على أهبة الاستعداد لاستقباله.

هنا تطرح عدة أفكار من الضرورة إبرازها:
الأولى ان الرسول لم يكن ليخرج من مكة لو بقيت حرية التعبير مكفولة له بحدها الأدنى إنما الأمر قد وصل الى الاغتيال متجاوزا أعراف قريش فهنا ماذا بقي أن يفعل بعد 13 سنة تحمل فيها ألوانا من الأذى هو وأصحابه.. وأصبح القرار القرشي تصفية محمد شخصيا.
الفكرة الثانية رغم قسوة قريش وتعذيبها لبعض الصحابة وإغلاقها النوادي في وجه الرسالة ومحاولاتها تشنيع أصحابها والاستخفاف بهم إلا ان الرسول لم يسمح لأحد من المؤمنين بدعوته القيام باي فعل فيه عنف او مواجهة مكافئة بل ظل ملتزما إصراره على حقه في الكلام والحوار بالتي هي أحسن.

لقد قدر الرسول ظرفه جيدا وأدرك الى أي مستوى وصل الأمر بقادة قريش وانهم يبالغون في عدوانهم ولن يتوقفوا او يتراجعوا وهنا أطلق الخطة للمؤمنين: أن هاجروا إلى يثرب.. وأخذ المؤمنون بالهجرة فرادى وجماعات.. ولأنه القائد الحقيقي كان أول من يهاجم و أخر من ينسحب كان هو في خاتمة رحلة الهجرة.

احتفظ الرسول كما كل المؤمنين بمشاعرهم الجياشة تجاه مكة وحبهم لها وحنينهم لها فيما كانوا يعزمون الرحيل فكانت الهجرة من بلد يعشقه.. انها مكة والأنس بالقرب من بيتها العتيق حيث آيات الله هنا الذبح العظيم ودعوات إبراهيم وإسماعيل وهلاك أصحاب الفيل.. كيف لا وفيه مرباه وذكرياته الإنسانية الرائعة: زوجه الاستثنائية وعمه العملاق أبو طالب..

انها ساعة القرار الحاسم اما الى الاستسلام للحظة القائمة او الرد عليها بعنف او إلى الهجرة وحبس الدموع وكتم المشاعر نحو يثرب حيث أخواله وأخوال أبيه وأخوال جده.. الى يثرب حيث الواقع المختلف والبيئة المختلفة فهنا يترب البلدة الزراعية والتي ليست في مكانة قريش من جهات عديدة.. هنا على عكس قريش غياب أي عرف يراعي حقوق الجميع انما هو الصراع الدام بين الأوس والخزرج وهنا سيطرة يهود على الاقتصاد حيث بيدهم المال والسوق وهنا زعامات منتفخة تخشى من هجرة النبي الى يثرب فينزع منها تسيدها.. فيما هناك قريش المنهمكة في تجارتها وقد كظمت غيظها على مضض وعجز وفشل مكتفية مؤقتا برحيل المسلمين.. فإلى اي مدى ستسكت وهي ترى تمدد المدينة الجديدة وتماسكها وتناميها ورسوخ قيم عالية المعنى فيها وتوسع نفوذ الرسالة وعلو شأن صاحبها.. ثم كيف تقبل مكة وقريش هجرة خيرة شبابها الى يثرب ماذا ستقول وبم تبرر للعرب وهي المعروفة بينهم بكرمها وسعة صدرها وحكمة رأيها هاهي تفلت لجنونها حمقه فتنهب بيوت المهاجرين وتستولي على أموالهم.. في حين تقف عناوين كبيرة امام الرسول لابد ان يعالجها وفورا ..هنا وهناك وهنالك .. مهمات كبيرة وتحديات من نوع جديد لم يكن كثيرها مطروحا عليه في مكة.. هنا ميلاد امة وانطلاق رسالة على أسس عملية ومنهجية .. ولكن هنا كذلك توجد صعوبات من نوع آخر لها علاقة بحياة الناس وتشابكات معقدة قد تسقط الفكرة في أتون تناقضاتها.. فبمقدار ما كانت يترب ملجأ لاصحاب الفكرة فهي كذلك امتحان كبير لنجاحهم في الانتقال من حال الجماعة المستضعفة الى الامة والقيادة المسئولة.

خطة متكاملة لبناء كيان اجتماعي سياسي:

مهمة الهجرة هنا ليست كسابقتها الى الحبشة.. فتلك كانت للسلامة والاستجارة دون أي إضافة أخرى.. بمجرد التحاق المهاجرين بالمدينة كانت الخطة تقتضي بناء كيان عماده المهاجرين والأنصار وهنا كان لابد من عدة خطوات أساسية:
1 – المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بحيث يكفل كل أنصاري واحدا من المهاجرين يتقاسمان المال والمسكن ووصل حد المؤاخاة في البداية انها اخوة توجب الإرث.. ولقد بلغت المؤاخاة مبلغا كبيرا في واقع الفئة المؤمنة وكان هذا بمثابة تمازج الطليعة المؤمنة وتجاوزها حدود الموقع الجغرافي.. جاءت المؤاخاة كفعل عملي وليس فقط كقيمة أخلاقية.. وهكذا وثق الرسول الأواصر القيمية والمادية بين المؤمنين برسالته بعد أن أصلح بين الأوس والخزرج في هذه العملية الكبيرة.

2 – أشار الرسول فورا ببناء المسجد وهو ليس فقط مكان للعبادة بل وكذلك لإدارة شئون المسلمين جميعا بل وإدارة شئون المجتمع المدني الجديد.. وكان هنا جديدا تمام الجدة على حس أهل المدينة الذين دخلوا في صيغة اجتماعية جديدة تحررهم من ركامات انتماءاتهم القبلية السابقة.. في المسجد ثقافة وإدارة وتوزيع أموال وتعبئة وتجنيد وشورى فكان المسجد بذلك المؤسسة الأساس التي ستتطور فيما بعد ولكنها حتى تلك اللحظة كانت جامعة كل نشاط النخبة حول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

2 – بعد المؤاخاة بين المسلمين كان لابد من وضع دستور لأهل المدينة جميعا يراعي مصالحهم جميعا ويقر بوجودهم وحقهم في عباداتهم وقضائهم وصيانة أموالهم وأعراضهم.. وصاغ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وثيقة من اهم الوثائق في تاريخنا الإسلامي وهي ذات مرجعية فكرية بالغة الأهمية لوعينا الاجتماعي.. اسماها معاهدة الموادعة دخل فيها المسلمون واليهود وغير المسلمين من يترب.. وكانت هذه الوثيقة المتشكلة في أوائل عهد الدولة الإسلامية تشير بوضوح الى طبيعة الدولة انه ترعى حقوق الجميع وليست دولة للمسلمين فقط.. وانه لا طغيان لفئة على أخرى.

3- ولان المدينة كانت خاضعة لنظام مالي اقتصادي يديره يهود المدينة يخضعون أهل يترب فيه الى الربا والابتزاز المالي وكانت مواقع عصب الحياة الاقتصادية بيد اليهود كالسوق الذي يعتمد الربا وبئر مياه تشرب منه يترب بمقابل مالي.. هنا كان لابد من تحرير السوق من الربا فقام الصحابة ببناء سوق آخر يبيع بدون ربا كما حفروا بئرا للمياه يضخ مياهه بدون أي مقابل مالي وبهذا حرر المسلمون مجتمع يترب من الارتهان لابتزاز تجار اليهود الذين لم يسكتوا طويلا قبل الانقلاب على المجتمع الجديد والتأمر عليه مع الأعداء لعلهم يقضون عليه.

دقة وفدائية وسرية:
بلاشك سنلاحظ في الوهلة الاولى ونحن نتابع حركة الهجرة ان هناك دقة وسرية وفدائية ميزت آليات الهجرة وساعاتها.. فبمجرد إدراك الرسول ان قادة قريش امتلأت قلوبهم حنقا وشرا وقد عقدوا أمرهم على التصدي بالسيف وجه صحابته ثم بمجرد معرفته بنية قريش وجمعها لفرسان من كل القبائل للاشتراك في قتل محمد قرر الهجرة وفورا ولكن أحاط ذلك بالسرية الكاملة ولم يطلع فيها الا أبا بكر وعلي.. ابوبكر رفيقه في الهجرة وعلي النائم في فراشه للتمويه على القوم.
ان غياب الرسول في تلك المرحلة من المشهد سينهي تماما فرصة بناء المجتمع الإسلامي في يترب.. وسينهي بلا شك صفاء الرسالة وهدفها.. وسيتحول المسلمون على أحسن ظن كما تحول أنصار عيسى عليه السلام مع ما قد ينتابهم من تحريف..
ورغم ان الرسول يعلم بنص القرآن ان الله عاصمه من الناس الا انه لم يترك أي أثر لرحلته يمكن أن يستدل عليه المتتبعون له، وقد أفسد على قيادة قريش رغبتهم وأحبطهم بنجاته وفي ذلك اعتمد الرسول السرية والتخطيط واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
لا يمكن إغفال هذه الروح العالية التي تحلى بها أصحاب رسول الله والذين تمتعوا بوعي وصبر وحب لقائدهم وتفانيا بين يديه.. فهذا هو ابوبكر يجير كل شيء لصالح الهجرة ويشرك اسرته في عملية التستر والتغطية ويكون خير رفيق للرسول صلى الله عليه واله وسلم، كما كان الإمام علي بتجشمه المهمة الخطرة أن يبات في فراش الرسول ليوهم المحاربين ان الرسول في فراشه وهذا فيه من المغامرة والخطورة ما قد ينتهي بالموت المحقق لكن التخفية والتعمية عن المحاربين كان هدفا في حد ذاته فكان هذا الفتى الفدائي الأسطوري في رباطة جأشه وحبه لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم.
من هنا ندرك التوظيف الرائع لكل ما باليد من قبل الرسول في اللحظة المناسبة لتحقيق النصر والنجاح وندرك أننا أمام قائد يأخذ بكل الأسباب والتي لو اتخذها أي مهاجر فار بدينه وبدنه فحتما سينتصر.. كان الرسول يتحرك في جمع السنن والنواميس كأنه لم يوعد بنصر الله..
الهجرة كانت مخاض الدولة وهي قد ختمت مرحلة التكوين للطليعة في مكة في مرحلة الاستضعاف وبعدها بدأ الخطاب يختلف والمهمات تختلف.. هنا منذ اللحظة الأولى يتم تحويل الأفكار الى حياة وواقع وهنا أصبح ميدان العمل مساحة امتحان لصحة الأفكار وقوتها..وذلك للتهيئة المنهجية لمراحل أكثر مسئوليات واوسع اهدافا..