حينما تغيب ثقافة السؤال
تاريخ النشر : 2023-03-31 09:44

رغم أهمية المهارات العلمية، والتخطيط والبرمجة، والاستشراف، إلا أنها تبقى عاجزة عن إدراك كل القواعد، وخاصة حينما تغيب ثقافة الأسئلة والتساؤلات والمساءلات في المجتمع، وتصاب النخب بالعمى السياسي والبصيرة العرجاء، وتسود الأجوبة المعلبة المحفوظة، وعقلية امتلاك الحقيقة.

أتساءل، ومعي كثيرون في عالم اليوم المعقد والمتشابك، ما الذي يعمينا عن توقع أحداث كبرى تباغتنا في حياتنا وحياة البشرية؟ ولماذا لا تساعدنا كل هذه المعرفة وأجهزة «الاستشعار» والخبراء والتلصص والتجسس، في تصور الأمور غير المتوقعة؟ هل هو «الغرور» المعرفي أو الإفراط في الثقة بالنفس وبما نملك من قوة صلبة وأخرى تكنولوجية وذكاء اصطناعي، وما فوق الذكاء وبعده، أم هي ثقافة التفكير الرغائبي الذي يتأسس على التمني ورؤية ما نشتهي أن نراه، أم بسبب التضليل الإعلامي والتجهيل المعلوماتي الذي يضاعف إرباك النخب والناس، ويؤدي إلى تعثر قراءة الظواهر والأحداث، والاكتفاء بقراءة سطح المشهد، وإهمال فكرة أن «قطرات المطر العابرة هي التي تشكل المحيط».

لا أحد في الوطن العربي، ولا في الغرب، كان عنده النبأ اليقين حول أحداث سبتمبر الإرهابية في نيويورك، ومصير الاتحاد السوفييتي وظهور غورباتشوف أو مجيء بوتين، أو حول مستقبل نظم زين العابدين ومبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح. لا أحد، وحتى «جهينة» نفسها، تنبأت بأبعاد ومخاطر احتلال العراق، ولا الدرس السوري (إلا بعد خراب الشام) ولا بتداعيات ما سمي بالربيع العربي، ولا بالاختراقات الخارجية للأمن القومي، ولا بترددات زلزال ما سمي بالصحوة الإسلاموية، إلا بعد فوات الأوان، وبعد خسران الذين كانوا يزرعون البصل ويحلمون بحصاد اللؤلؤ.

مطلوب ثقافة مغايرة، لا تصغي إلى كتبة البحوث والتقارير التي تُدلِّك العواطف، وتبرز الأورام باعتبارها عافية.

هناك الكثير من النخب والنظم تتصرف كما لو أنها قادرة على تحويل مسار التاريخ، تتنافس بشراسة وعدوانية، وتتمدد في ثغرات أو فراغات الأزمات كما لو أن «الآخر» مصاب بالزهايمر أو الخرس، تهزُّ أكتافها وتزمّ شفاهها عند سماعها عن مقتربات غير مطروقة لاجتراحها، أو عن أسس أخلاقية تحمل صفة الشمول والكونية، والمسؤوليات المجتمعية، أو عن وسائل عقلانية بمعايير أخلاقية في تحقيق الغايات المنشودة.

إن هذا الاستهتار بالتنبؤ الواعي والمعايير الإنسانية الأخلاقية يؤذي الحاضر، ويدِّمر ممكنات المستقبل.

إن ما لم يحدث بعد ليس مستحيل الحدوث، وإن الخلافات الصامتة، أو تلك التي نخبئها تحت «السجادة»، قد تنفجر في لحظات غير متوقعة.

حروب دموية قد تشعلها «أصوليات يمينية» في أوروبا وأمريكا وإسرائيل بعد أن تحكم قبضتها على مفاصل القرارات السياسية والثقافية والتشريعية، وتتسرب ممارساتها إلى مألوف الناس اليومي.

أمور كثيرة، في البيئة والاقتصاد والأوبئة، وفي ارتفاع نسبة البطالة واختلال الأمن الغذائي والمائي والطاقة وسلاسل التوريد ومفاصل مهمة في العولمة، لم تساعدنا تكهنات خبراء الأسواق والمال والنفط والغذاء، رغم خبراتهم، في توقع اللاممكن في تلك المجالات. تعثرت قراءاتهم، وأهملوا ما بين السطور، وجهلوا أسرار الشعوب ومنظوماتها المفاهمية التي لا تطفو على السطح، وقلبوا الصفحة التي فيها ما لا يروق لهم

........

رحم الله الدكتور محمد عابد الجابري، الذي دعانا إلى قراءة متعمقة لأفكار ابن خلدون، إلا أننا لم ندرسه جيداً، رغم أنه وغيره من الفلاسفة خير من دلنّا على مكر التاريخ ومكائده غير المحسوبة، وحرّضنا على الشك فيما نقرأ وفيما نسمع، وعلى إدراك ثنائيات الدولة ونقيضها، وعرّفنا بقوانين التفكيك والتمدن، وتعامل مع التاريخ كمحلل وفاحص ومقارن بين الروايات.

إن التاريخ غير قابل للمكوث عند لحظة ما، وهذا هو مكره، وكم أخشى أن تستمر ثقافتنا العربية المعاصرة، حاملة نزعة الفرار من مواجهة أسئلة تعقيدات المستقبل.

.......

نتذكر قول الشاعر الأندلسي:

يا غافلاً وله في الدهر موعظةٌ

إن كنت في سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ