الإلغائيون في غزة والسنوات السبع العجاف
تاريخ النشر : 2014-11-12 08:47

بين السنوات السبع العجاف في بدايتها، وفي منتهاها الآن، قاسم مشترك من ارتكابات الإلغائيين في غزة، التي يبدو أن ليلها سيكون طويلاً، وطويلاً جداً، فالفلتان الأمني والسياسي الذي لم يغادر القطاع، طوال السنوات التي مضت، عاد ليهيمن مجدداً، في فضاءات يتشابك فيها المحلي بالإقليمي، إرهاباً وتخريباً وتدميراً، من قبل تطرف محلي، وعلى جانبي الحدود مع مصر، وعدوان متواصل من قبل اسرائيل، على كامل الرقعة التي يشكلها قطاع يضيق بناسه على الأرض، ويضيّق على ناسه في البحر، ولا ترحمه الطائرات من الجو.

لقد دخلت غزة طوال السبع العجاف، وتدخل الآن بأسرع مما مضى، فضاءات وحراكات «حروب إلغاء جهادية» على شاكلة شقيقاتها في كل من سورية والعراق، وكانت بدايتها «حرب داحس والغبراء» الفلسطينية، وها هي تتطور إلى «حروب إلغاء جهادية»، عمادها اندماج المحلي بـ «الأممي»، ولو على حساب الوضع الوطني الفلسطيني بكامل معطياته، حتى بات الصراع الفلسطيني لا يقتصر على الاحتلال الإسرائيلي، وإنما على احتلالات متعددة، تبدأ بالتطرف على حساب القضية الوطنية، ولا تنتهي بتحويل مسألة الصراع التاريخي مع الصهيونية الى مسألة هامشية.

من المؤسف أن تنحدر المسائل الوطنية التي تمحورت وتتمحور حول قضايا وطنية، إلى مستويات دنيا من التنازع والصراع، والتنافس على سلطة من وهم، وخلق مجال من وهم المبايعات الخلافية، فيما القضية الفلسطينية برأسمالها الرمزي، بات مطلوباً التخلص منه، على مذبح تصفية حسابات «التدين السياسي» مع القضايا الوطنية، في بلاد يعتقد «المتدينون الجدد» فيها أنه آن الأوان لعودة انطوائها وانضوائها تحت راية «خلافة» مزعومة، المجد فيها للاستبداد، والقداسة فيها للاسترقاق وللاستعباد.

في هذه الأجواء، وفي ظل سيادة معطيات أقل ما يقال فيها إنها مأساوية، فيما لو ساد «الدواعش» وأضرابهم على رأس سلطة استبداد مقيم، يتماهى معها بعضهم في غزة وفي سيناء، وفي العديد من المواقع التي تشهد هشاشة السلطة وضعف الدولة المدنية، حيث بات يُخشى فعلياً من تحول تلك المواقع إلى مرابع، أو مربعات أشكال شتى من الحروب الأهلية، التي تشترطها سلطات «الخليفة»، كونها تعرف أنها محط خلاف لا محط إجماع، وكونها تأخذ السلطة بالانقلاب الإكراهي، وبالضغوط، وبالقتل والذبح، وبالسبي والاستباحة، وبالحكم بشرع لا يأخذ بغير الباطل سبيلاً للتقاضي، من دون الأخذ بأي سبب من أسباب ارتكاب الإثم أو المعصية، بينما الشرع الحقيقي يأخذ بكل الأسباب التي أدت وتؤدي إلى النتيجة المحتومة. حتى بتنا أمام أناس يدّعون التدين وهم أبعد ما يكونون عن الدين، بدلالة افتضاح أمورهم، حيث تبين للجميع أنهم ليسوا قضاة فبينهم وبين القضاء جبال من الجرائم، جرائم الذبح والقتل والاستهانة بالإنسان على الشبهة، وارتكاب المعاصي والكبائر بحق كل من لا يتفق معهم ويرطن برطانتهم، ولا هم كانوا بالأصل دعاة، فالدعاة بالحق يدعون، لا بالكره والبغضاء وتقديس سلطة من وهم الغلبة يداهنون وعليها يراهنون.

هكذا يمضي حال من لا يريدون للوضع الوطني الفلسطيني أن يستعيد عافيته، حتى بعد الاتفاق على بدء حكومة الوفاق الوطني ممارسة مهماتها، ومن ضمنها الدخول في تفاصيل إعادة إعمار غزة، حيث يبدو أن بعضهم «الداعشي» وأضرابه، لا يريدون إعماراً بقدر ما يستهدفون دماراً، لا يتمناه إلا العدو لغزة ومواطنيها، ولشعب فلسطين على العموم. شعب يخوض غمار مقاومته للاحتلال ودفاعه عن المقدسات وحيداً، دفاعاً عن أرضه وعن عرضه، وعن تاريخية الأرض الفلسطينية، بهويتها العربية وكرامتها وكرامة أهلها.

إن استثارة النوازع الفئوية الفصائلية، انطلاقاً من غزة، وفي مناسبة التحضير للاحتفال برحيل ياسر عرفات، عبر سلسلة التفجيرات التي حدثت لمنصة الاحتفال ولبيوت بعض القادة الفتحاويين، دليل إجرام وارتكابات وحشية، ليس بحق من استهدفهم الإجرام الليلي لرواد «الجهاد الإلغائي والإقصائي»، بل بحق جميع أبناء الشعب الفلسطيني الذين يؤمنون بأن قضيتهم، قضية فلسطين، هي قضية وطنية لا فئوية أو فصائلية، وقضية مواطنين لا قضية تكفيريين إلغائيين، فلسطين بعيدة من فكرهم وأيديولوجياتهم، بُعد السماء عن الأرض، ففلسطين ليست في وارد «الجهاد الإلغائي»، بقدر ما يقف هذا الصنف من «الجهاديين»، على الضد من قضايا شعوبهم ومجتمعاتهم ودولهم المدنية، وهم يحاولون استعادة وتكرار ماض يستحيل إعادة تمثله، فالماضي الذي مضى لا يعود، أما الحاضر والمستقبل، فهما خليقان باهتمامات أناس يعيشون حاضرهم، ويملأونه حضوراً يرسم دروباً لمستقبل يأتي بالتأكيد، على الضد من أوهام أصحاب الغيبوبة.

عن الحياة اللندنية