تغيير خصائص الخطاب الاعلامي والسياسي
تاريخ النشر : 2023-01-29 17:13

يظن البعض انه يمكن لفلسطين وقضيتها فقط بخطاب المسكنة وذرف الدموع والبكاء واللطم أن تحقق الوسيلة المناسبة لكسب الانصار وتوسيع جبهة المقاومة.. ويظن البعض أن الانصراف الى الشكوى ثم الشكوى واثبات ان العدو متغطرس وعدواني يمكن ان يقنع صناع القرار الدولي أننا اصبحنا مؤهلين لنيل بعض حقوقنا..
ورغم ان الثورة الفلسطينية نقلت الخطاب الاعلامي بكل ادواته السياسية والفنية الى روح منتصرة ومقتدرة عشناها عشرات من السنين تصنع صورة واقعية ايجابية فرضت وجودنا كواقع سياسي الا ان لعنة القبول بعملية التسوية دفعت هذه الروح للخلف ظنا منها ان مرحلة الحصاد حانت وهي تحتاج خطابا مختلفا، ومع ذلك ظلت تلك الثروة الهائلة في مفردات الخطاب وصوره الفنية موجودة يمكن العودة لها كلما استدعى الحال.. أما على جانب الثورة حيث الفصائل المستحدثة فلقد اغرقت ادوات التعبئة على الحزن والشكوى او العدمية الانتحارية وغياب الهدف السياس.
لقد انتهى خطاب الذلة والمسكنة والتظلم واللطيمة الى فقدان القدرة على الضغط على المترددين في العالم والى احباط الانصار والاحباب، فالناس لا يقض مضجعهم المظلومون الحزانى ولا يؤلمهم ذرف الدموع السخينة وندب الحظ واللطم على الصدور انما يلتفتون الى المؤمنين الاقوياء بحقهم، المدافعين عنه بتصميم، الاذكياء الفعالين والجادين..
ألم يئن أن نصبح اكثر قناعة بعد تجاربنا في تبدل الخطاب بان كثيرا من الآداب والفنون في حركات المقاومة اليوم أصبحت عبأ على المقاومة وروحها..
الثورة الفلسطينية المنتصرة:
بمراجعة ادبيات الثورة الفلسطينية المعاصرة ورائدتها حركة فتح نلاحظ ان هناك عناصر خاصة بها ميزتها عما قبلها وعما بعدها وذلك قبل ان يشوش عليها خط التسوية السلمية.. فهي انطلقت من وحدة الشعب ووحدة الأرض فكان الشعب حيثما كان هو المقصود وفلسطين كلها الهدف، وكان لمخيمات الشتات الدور البارز في رفد الثورة وتثبيتها، وكان خطاب الثورة موجها للكل الفلسطيني بل العربي بل والإنساني بشكل واسع وكان يتضح فيه الإصرار على الحق والايمان به والإصرار على الثورة والتصدي للعدو ورفض كل محاولات الابتزاز ورفض الاقتراب من الحلول الجزئية التي يلقي بها الأعداء .. كان هذا هو الخط الافتتاحي للاعلام والفن الفلسطيني الذي احتكم اليه الادب والفكر والثقافة والشعر والغناء..
فكانت الأدوات ممثلة في الصحف والمجلات والاذاعات وما تبثه من أناشيد ثورية يترجم بوضوح هذا الخط الافتتاحي فكان الخطاب الفلسطيني منتصرا بداية على روح الهزيمة ومنتصرا بثباته على الحق الفلسطيني كما هو الحق الفلسطيني وحدة الشعب ووحدة الأرض وكان منتصرا بتمسكه بادوات الثورة ورفضه التنازل عنها.
من تابع مجلة شئون فلسطينية ومنشورات دراسات فلسطينية ودراسات إسرائيلية ومن تابع صحف العاصفة وفلسطين المحتلة وفلسطين الثورة ومن استمع الى أناشيد الثورة الفلسطينية كان يدرك تماما انه إزاء ثورة شعب فلسطين بكل زخمه وانه مصمم على الانتصار وان المعركة معركة حضارية بكل مافي الكلمة من معنى ولهذا كانت الثورة الفلسطينية واحة لكل الاحرار في الامة فكان شباب العرب الغيارى يجدون سبيلهم الى خنادق الثورة بلا عقبات واندفع شباب لبنان المسيحي والسني والشيعي والدرزي في صفوف الثورة والتحق الباكستاني واليمني والإيراني بخنادق القتال وكانت الثورة تزودهم بافق انساني بديع في تلك السنوات القليلة من سنة 1968 الى سنة 1982 أي من موقعة الكرامة الى الخروج من بيروت أربعة عشر سنة استطاعت الثورة الفلسطينية تن تنجز إنجازات سياسية استراتيجية أهمها تثبيت الشعب الفلسطيني في خريطة المنطقة بعد ان توزع وتشتت ارضه تحت حكم أجهزة الامن العربية..
كان رد الفلسطينين على أي تخاذل من قبل أي نظام عربي هو تصعيد عملهم العسكري فكانوا اما يحبطون ذلك التخاذل او يحجموه وكانت الثورة بعنفوانها تجبر كثيرا من الأنظمة على دفع المستحقات للثورة الفلسطينية ولم يستطع أحد تجاوز الثورة الفلسطينية وقرارها على الأقل ظاهريا.. وعندما حصلت كامبديفد كانت الثورة الفلسطينية من القدرة ما جيشت الدول العربية جميعا في صفها.
كانت خطاب الثورة الفلسطينية كما تحركها صادرا عن رؤية لحجم القضية وحجم فلسطين وحجم الفعل الفلسطيني المثور للمنطقة، فكانت ثورة ضد المصالح الاستعمارية في المنطقة وكانت مفردات خطابها مليئة بذلك وليس غريبا ان نرى امدادها لثورة ارتيريا وايران وجنوب افريقيا وزيمبابوي وكثير من الثوار في العالم.. فكانت رؤيتها الكونية للثورة قادرة ان تتحول الى فن واعلام يكون في مستوى رسالة فلسطين حيث الموضوع باختصار فلسطين او الهيمنة الاستعمارية في المنطقة.
التسوية والخسارة الاستراتيجية:
من "طل سلاحي من جراحي" و" طالعلك يا عدوي طالع" الى "ازرع تفاح وزيتون" هذا هو اختصار التحول النفسي والإعلامي الكبير الذي مر فيه الخطاب الفلسطيني الرسمي.. اصبح الخطاب الفلسطيني متحللا من ثوابته الأساسية وهي وحدة الشعب ووحدة الأرض فاصبح سكان الضفة الغربية وقطاع غزة هم المعنيين بالشعب وأصبحت ارض الضفة وغزة هي فلسطين وذلك بعد الاعتراف الرسمي الفلسطيني بإسرائيل دولة شرعية في المنطقة..
هنا أصاب الخلل ليس فقط مفردات الخطاب انما قواعده الأساسية وفورا انسحبت الثقافة والفن والاعلام من ساحة الفلسطينيين.. فالثقافة والفن والادب طرق للطهارة وتعبير لا يتلعثم عن عميق الوجدان.. وانقطعت صلة الجهاز السياسي الفلسطيني ببقية الشعب الفلسطيني وانعدم الخطاب وغاب الهدف واصبح الملايين الثمانية في الشتات خارج الاهتمام الإداري والتنظيمي والسياسي الفلسطيني.. كما ان هناك عناصر أساسية في الواقع حولت الحالة العسكرية الرسمية الفلسطينية من خنادق القتال الى خنادق التنسيق الأمني مع العدو في ما يجب ان يتم لإفشال أي عمل امني يستهدف الكيان الصهيوني.
وهنا فقدنا الاهتمام بالرأي العام الشعبي العربي والشعبي العالمي رغم تصاعد التأييد العالمي لحقوقنا ورغم ان العدو يخسر باستمرار على صعيد الرأي العام العالمي.. بل ولقد كسبنا مواقع داخل الوعي الإسرائيلي حيث بدأ التصدع في الرواية الصهيونية وبرز جيل من المؤرخين الصهاينة يفندون الرواية الصهيونية ويبرزون حجم النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني..
وفي ظل غياب الخطاب الثوري تعرضت القضية الفلسطينية الى انتكاسات خطيرة كان ابرزها الانقسام بين السياسي داخل الساحة الفلسطينية وانعزال السلطة الفلسطينية عن عموم الناس ورغم حكمة الشعب الفلسطيني وصبره الطويل الا ان التذمر والنفور اصبح سمة واضحة في موقف الشعب داخل الوطن وخارجه.
كانت الخسارة الاستراتيجية التي منيت بها الثورة الفلسطينية في تصدع مقولتها واهتزاز خطابها وتحول ادواتها الى الترويج لحالة الانسياق في عملية تسوية سرابية لم تحقق للفلسطينيين الا مزيدا من اليأس والابتأس..
من الثورة الى المشاغلة:
عندما غابت سمات الثورة الأساسية عن مسيرة العمل السياسي الفلسطيني والتي تنبعث من رفض مطلق للوجود الاستعماري على ارض فلسطين وعدم التصالح معه.. عندما غابت هذه السمات اصبحنا بكل وضوح إزاء التعامل مع حالة سياسية في اطار الحالة الاستعمارية حتى لو تلونت بكلمات تذكرنا بوطنيتها من حين الى اخر..
وهنا انبعثت جماعات تحت مسميات عدة في ظل واقع الحالة السياسية المريضة للثورة الفلسطينية.. وانشغلت هذه المجموعات بتثبيت وجودها على الأرض سواء كان ذلك بالتصادم الداخلي او بالاشتباك الخارجي مع العدو وفي الحالتين كان الهدف التمكين للجماعة وتنظيمها وصولا الى الانقلاب على السلطة والاستحواذ بغزة ودخول ثلاثة حروب قاسية عززت وجودها في الشارع وسلطتها على غزة.. هنا برز من جديد من خلال السلوك والعلاقات طبيعة رؤية هذه المجموعات التي ربطت مشروعها بمعاملات خارجية وأصبحت فكرة المشاغلة كما يسري بين قياديها هي الفكرة التي اقتنعت بها المجموعات المقاومة و لم يعد في البال أي تفكير بعمل يسير في اتجاه التحرير وارهاق العدو على اعتبار ان هذا له شروط أخرى غير موجودة او ربما ان هذا سيكون من مهمات محور المقاومة وليس حركة فلسطينية مقاومة.. وهنا انعكست هذه الرؤية على الاعلام والادب والفنون كاداوات وكمجال.. فعلى صعيد اللغة غاب الهدف واختلطت المشاعر وغاب أي جهد فكري ثقافي سياسي واما ما يوجد من أدوات فبسيط ومتواضع لايرتقي الى مستوى خطاب ثورة او مقاومة..
المشاغلة هي نتاج عنصرين واضحين الأول عميق الفكر الإسلامي الاخواني وهو عدم التجذر في البعد الوطني والعنصر الثاني الثاني عملية كي الوعي وكي الفعل التي انشاتها الحروب الثلاثة القاسية على غزة.. ورغم ان المصطلح لازال يدور داخل الصفوف الخاصة في الجماعة الا ان السلوك العام لم يعد قادرا على انكار ذلك.
تغييب الشعب الفلسطيني:
اكثر من ثمانية ملايين فلسطيني في الشتات يتم تغييبهم بقصد او بعجز عن القيام بدورهم المنظم في عملية استرداد فلسطين.. وكل ما يتم في الخارج انما هو جهد فردي وتلقائي من لدن الجاليات الفلسطينية التي تتحرك بلا خطة ولا سقف في اوربا وامريكا والدول العربية..
ان هذا التغييب الحاصل انما هو خسارة كبيرة لقوة الكفاح الفلسطيني وهو من جديد يفسر حالة الموقف الرسمي الذي وضع كل امانيه واحلامه على العملية السياسية غير مقتنع اننا نملك أي قوة للتأثير على صانع القرار.. وهو يفسر رؤية الجماعات الأخرى التي لا ترى في جهود الشعب الفلسطيني بالخارج القدرة على تغيير شروط الواقع.
من هنا يمكننا القول ان الخطاب الفلسطيني بقسميه فاقد لخطاب الثورة فهو اما خطاب التسوية او خطاب المشاغلة وعلى الجبهتين نخسر الخسارة نفسها ومن هنا بالضبط يصبح ميلاد خطاب جديد يحمل المعاني الفلسطينية صافية شرط أساس لاي عمل فلسطيني قادم..
من هنا نرى انه في ظل الإحباط والعجز اللذين تولدا عن منهج التسوية ومنهج المشاغلة أصبحت قطاعات الشعب ووشرائحه في عزوف تماما عن الخطاب على الجهتين.. ومن هنا بالضبط اصبح شباب الضفة الفدائيين عنوان لمرحلة قادمة يعيدون للخطاب الفلسطيني القه وإبراز قوته وهكذا سنكون إزاء مرحلة جديدة ضرورية بعد ان سقط خطاب الهزيمة وتبعثر خطاب المشاغلة..
خطاب فلسطيني بحملاته الثقافية والفكرية والعقائدية جميعا واساسها فلسطين الواحدة لشعبها الواحد هذا ما سيبعث اعلاما مؤثرا وفنا محركا وادبا طاهرا وسياسة راشدة.. يبدو اننا على بداية التحول التاريخي لكفاح شعبنا وسنولد ميلادا جديدا وسيكون لعدي التميمي وخير علقم الفضل في وضع الحرف الأول في الجملة الأولى.