إلى من يتباكون على الشهيد الرمز ياسر عرفات
تاريخ النشر : 2013-11-13 21:57

تُثار هذه الأيام حملةً إعلامية مركزة وشرسةً على تهاون السلطة الفلسطينية حيال ملف إغتيال الشهيد القائد ياسر عرفات، وكأن هذه السلطة في عداد الدول العظمى التي تملك الإمكانيات التقنية العالية واليد الطولى في محاسبة القتلة، في حين عجزت الدول العربية قاطبة عن ملاحقة قتلة زعمائها من جمال عبد الناصر الى هواري بومدين الى الملك فيصل وإلى صدام حسين الذي أعدم وهو ينطق الشهادتين في يوم عيد إسلامي عظيم في مشهد إفتزازي سافر لمشاعر الأمة قاطبة. وكتمت الأمة القهر في نفسها ولم تنبس ببنت شفه.

أصغيت ليلة أمس مكرهاً الى برنامج الإتجاه المعاكس على قناة الجزيرة، وهذا البرنامج بحد ذاته ضرره يفوق نفعه بكثير، لا بل كله ضرر ولا نفع فيه، لأنه يضرب على وتر الخلافات العربية ليذكيها ويشعلها، ويثير الحساسيات النائمة، ويفتح الجراحات في كل الملفات العربية، وينشر الغسيل العربي والأمراض العربية النفسية، سواءً في الملف السوري أو الملف المصري أو الملف الفلسطيني أو التونسي أو الليبي. والعتب كل العتب على كل فلسطيني أو عربي يشارك بهذا البرنامج الضار بقصد أو بدون قصد. وحلقة أمس تأتي في سياق الحملة الإعلامية على السلطة الفلسطينية التي تتبناها قناة الجزيرة منذ أمد بعيد. حيث تقود هذه الحملات الإعلامية الإنفصامية قناة الجزيرة بأدواتٍ إخوانية وحمساوية، يتباكون فيها ويذرفون دموع التماسيح على ياسر عرفات، ويصدرون له صك الزعامة والرمزية لنضال الشعب الفلسطيني، وحمل راية المقاومة والشهادة في تاريخ استحقاق في أجندتهم يأتي في غير موعده مُحيِّرأً، ولا يتناسب مع النهج القديم الحديث لهم، متناسين إتهاماتهم له في حياته وبعد مماته بالخيانة وبيع القضية، وهم الذين أسقطوا صوره ورمزيته عن الحائط وداسوها بأقدامهم يوم الإنقلاب. وتأتي هذه الحملة في سياق الحملات التي شُنت عليه وعلى نهجه المتمثل في حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، وذلك أمتداداً لموقفهم من منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها عام 1964م واستمرت الحملات المضادة لمنظمة التحرير حتى إطلاق الرصاصة الآولى عام 1965م، وزادت شراسة وما زالت إلى يومنا هذا. وكل ذلك إنطلاقاً من مقولة "كلمة حقٍ يُراد بها باطل". ويأتي في سياق الإنتهازية لأهداف تصب جلها في محو واندثار ما تبقى من آثار ونهج ياسر عرفات المقاوم والثائر وصاحب البندقية وغصن الزيتون.ونسف المشروع الوطني الفلسطيني من أساسه.

فإن كان ياسر عرفات رمزاً وزعيماً للشعب الفلسطيني كما يدعون على القنوات الفضائية، فحقه واجب على كل فلسطيني، فلماذا لا يهبون هم بصفتهم من هذا الشعب لملاحقة قتلته إن قصّر أو تخاذل مناصروه أو تآمروا عليه كما يدعون؟ ولماذا لم يلاحقوا قضائياً قتلة محمود المبحوح الذي أغلق ملفه دون أن ينبسوا ببنت شفه.

نحن لسنا بحاجة الى مزيد من التنافر والتنابز والتجاذبات وشق الصفوف، ولسنا بحاجة الى التشكيك واتهام بعضنا البعض دون ثبوت الأدلة في استباق سياسي رخيص من أجل هدف أرخص.

من يتباكى على عرفات عليه أن يعمل على تحقيق حلمه بكل الوسائل المتاحة بما يحفظ لهذا الشعب كرامته وعيشه الكريم، ورسوخه في أرضه التاريخية، ذلك الحلم الذي يتمثل في رفع أشبال وزهرات فلسطين علم فلسطين على أسوار القدس المحررة عاصمة للدولة الفلسطينية، فقد أدى الرسالة ولقي ربه راضياً مرضياً، وسيظل رمزاً للشعب الفلسطيني مدى الحياة وعلى امتداد التاريخ والأجيال. وسيظل نهجه نبراساً للأجيال القادمة.

هذا صراع مفتوح بيننا وبين قتلة عرفات، وهم معروفون للداني والقاصي، وللطفل الفلسطيني منذ اليوم الأول الذي لقي ربه فيه، والأيام دول، وهذه أيامهم، فهم يقتلون منا يومياً ويعتقلون ويعذبون، وكل قطرة دم فلسطينية تراق من دم أي فلسطيني على أيديهم، هي تُزهق من دم عرفات، ولا تقل عن دمه، عزيزة علينا كعزته وكرامته. ولكن لا بد وأن تنقلب الأيام، وتدور عجلة الزمان، وتتغير الموازين، وحينها لن ننسى عرفات، ولن تنساه الأجيال القادمة.

يقول المتباكون على عرفات أن هنالك أدوات فلسطينية استخدمت في إغتيال عرفات، وظفها القاتل لإيصال السم له، هذا إحتمالٌ وارد، لكنه لم يثبت بعد، تماماً كما هو الحال في إغتيال الشيخ أحمد ياسين، والشهيد عبدالعزيز الرنتيسي وإسماعيل ابو شنب وأحمد الجعبري الذي أصيبت سيارته في قلبها بصاروخ موجه وهي تسير بالشارع دون المساس بالسيارات التي تحيط بها من اليمين واليسار والخلف والأمام.إذ هنالك إحتمال وارد في تواطؤ نفوس فلسطينية مريضة في قتلهم جميعاً، وطويت ملفاتهم دون تحقيق في الدائرة التي كانت تحيط بهم. وكثيرٌ من الأبطال الفلسطينيين الذين عجز العدو عن الوصول إليهم، ووصلهم بأدوات فلسطينية وعربية وأجنبية من ذوي النفوس المريضة أمثال الشهداء: باجس أبو عطوان، وحسن العجوري، ويحيى عياش، وخليل الوزير، وصلاح خلف، وهايل عبدالحميد، وماجد ابوشرار، ومحمود الهمشري ومن قبلهم كمال عدوان وكمال ناصر وابويوسف النجار وعلي حسن سلامة وغسان كنفاني وقائمة طويلة.

هذا عدو يملك التقنية العالية المتطورة واليد الطولى القادرة على استحضار أو تصفية أي شخصية فلسطينية تعيش اليوم في فلسطين سواء في غزة أو الضفة، ولا يتوانى في التباهي والإعلان عن قتل المناضلين الفلسطينيين. وكان الهدف من حصار عرفات واضحاً، هو التصفية السياسية ومن ثم الجسدية، وكانت الأمة بأسرها تدرك ذلك ولا تستطيع حولاً ولا قوة، فقد أخطأت حساباتهم بأن الحصار الطويل سينال منه في هذا السن المتقدم من العمر، وسيقضي عليه الحصار تلقائياً دون شبهة أو اتهام، ولكنه ظل كعادته جنرالاً أسطورياً، وجبلاً صامداً شامخاً لا تهزه الريح، وبطلاً متحدياً، وطالباً للشهادة ورافضاً للإبعاد. الى أن يئسوا من النيل منه بالحصار فقتلوه بالسم.

يقولون أن فئة منتفعة من أنصار عرفات في حركة فتح تواطؤوا مع العدو في تصفيته، لأنهم يمثلون الإنقلاب على نهج عرفات الذي يزاوج بين المقاومة والمفاوضات، وهذا إحتمال وارد لكنه لم يثبت بعد، ولم نجد من بين خلفائه المتهمين من وَقّع أو فرّط أو باع او تنازل عن أي ثابت من الثوابت الوطنية الفلسطينة من بعد وفاته، لكن لكلٍ منهم كانت له رؤيته الخاصة في إدارة الصراع حسب زمانه ومكانه. وهم يعلنون عن نواياهم ونهجهم في إدارة الصراع صراحة للناس دون مواربة أو نفاق أو ضحك على الذقون.

تماماً كما هو الحال في إغتيال اسماعيل ابو شنب والشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي الذين كانوا يرفضون الدخول في الإنتخابات الفلسطينية، ولا يريدون الدخول في منتجات أوسلو، ولا يسعون لسلطة تحت الإحتلال، وكانوا يرفضون الصدام الفلسطيني الفلسطيني ويعتبرونه خطاً أحمراً، وبعد إغتيالهم تغير النهج الحمساوي، وقرر الورثة الدخول في الإنتخابات بحثاً عن منتجات أوسلو وانغماساً فيها الى الهامة، وفازوا بها، ودخلوها مبتهجين بمفاتنها، وانقلبوا على شرعيتها،وخاضوا صداماً فلسطينياً فلسطينياً مسلحاً أريقت فيه الدماء الفلسطينية بفظاعة منقطعة النظير، وأمسكوا بمنتجات اوسلو وعضوا عليها بالنواجذ متقوقعين على أنفسهم في غزة، ومختطفين لشعبنا هناك، يستمرؤون عذاباته وحصاره وتعطيل مصالحه لحساب مصالحهم الشخصية الفئوية، مرسخين الإنفصام الفلسطيني، واختفى الفعل المقاوم على الرغم من أن شعار المقاومة ما زال مرفوعاً في التصريحات وخطب الجمعة فقط، وذلك بحثاً عن السلطة المهترئة وتمسكاً بتلابيبها. وهذا بحد ذاته يُعد إنقلاباً واضحاً على نهج القائد والمؤسس لحركة حماس الشيخ أحمد ياسين.

هذا إن اعتمدنا في ذلك على مقاييسهم التي اعتمدوها في قضية تبرير التواطؤ باغتيال عرفات للإنقلاب على نهجه. وبالتالي واعتماداً على تلك المقاييس الزائفة نخلص الى تخوين الشعب الفلسطيني بمجمله والتنكر له ولتضحياته الأسطورية، ولشطب تاريخه النضالي.

ليس هذا دفاعاً عن أحد ضد أحد، ولكنه تبيان للحقائق، ووقاية من تسميم الفكر الفلسطيني وخاصة من لا يمتلكون الخبرة من الشباب والأجيال القادمة التي ستحمل الراية، ومن لم يعاصروا مراحل القضية الفلسطينية وتموجاتها، ومنعاً لتأليب الفلسطيني على أخيه الفلسطيني، ودرءاً لتخوين الفلسطيني والتشكيك في تاريخه النضالي، وفي رمزيته وهويته الوطنية.فهذا صراع طويل الأمد، وهو مفتوح على مصراعيه، وموازين القوة فيه مختلة، والكفة فيه اليوم تميل لصالح العدو بثقل القوة المادية والدعم الخارجي اللامحدود، وانطوى على إخفاقات وأخطاء، وشهد نجاحات كثيرة سطرتها دماء الشهداء وعذابات الأسرى، وفيه من الأبطال والمناضلين الكثرة السائدة والعظمة وفيه من العملاء والخونة القلة والندرة المتنحية، مثلنا كمثل أي شعب، وهو من أعقد الصراعات وأكثرها صعوبة ومرارة على مدار التاريخ.

كفانا مناكفة ومنابزة وتخويناً لبعضنا البعض، وكفانا إنفصاماً وانقساماً، نخلق من أنفسنا عدواً لنا، وندخل في صراعات بينية، وننسى عدونا المشترك، فلنترك هذه المهاترات والمنابزات، ولا نتنابز ونشكك في تاريخنا وشهدائنا ونحن نتفرج على القدس وهي تُهوّد، ولنركز على صلب قضيتنا، وعلى وحدتنا وهموم شعبنا لكي يرتاح عرفات في قبره.