نقطة البدء في التأثير بالآخرين؟
تاريخ النشر : 2013-11-13 16:14

إن الناس يقضون معظم أوقاتهم بالاتصالات مع أنفسهم ومع خالقهم ، ومع بعضهم البعض إذ يقضي الإنسان أكثر من 90% من وقته بالتواصل ،لذى فإن التواصل أو الاتصالات هي في الحقيقة حياة الإنسان في دوائرها الثلاث العملية والافتراضية والخيالية.

فمن حيث هو يعيش في مجتمع وبيئة فهو يخالط الناس : يتكلم ويصرّح ويتعلم ويسأل ويجيب ويندهش ويصرخ ويكتئب ويفرح ويصمت، ويشير بيديه أو حاجبيه... وفي كل ذلك اتصالات حقيقية يمارسها يوميا،وربما يكتب ويقرأ ويدون.

وحيث هو يتأمل ويفكر مع نفسه أو يتخيل أو يحلم أو يخطط أو يستقرئ خطوات الغد، أو يبدع فهو يحلّق في سماء الخيال، والخيال كما قال (اينشتاين) أقوى من المعرفة، وهو مفتاح الفكر الابداعي فمن لا تسعه الحياة المعاشة بقيودها وأنماطها وقوالبها، يبدأ بكسرها في الخيال الذي يصبح في يوم من الأيام واقعا.

كما يعيش الناس واقعهم الافتراضي عبر الشابكة ومواقع التواصل الاجتماعي التي أخذت بتلابيب الناس وجذبتهم لعالم ثالث يقف بقوة الى جانب عالمهم المادي وعالمهم الخيالي في عقولهم . فيجد من يرغب الإبحار في عالمة الافتراضي في مواقع التواصل الاجتماعي كل أشكال التواصل: فيتكلم ويرى ويسأل ويجيب ويعبّر ويعقد الصداقات، ويشكّل المجموعات أو ينخرط فيها، فيما هو متنفس جديد وموطئ قدم للكافة ينافس الحياة المعاشة وحتى أحلام اليقظة في الظهيرة.

إن سيل الاتصالات التي تتدفق بلا انقطاع في رأس انسان اليوم تجعل من دماغه اسفنجة تمتص ما يرسل اليها بطريقة مرنة قد تجعل من عوامل التأثير الاتصالية المختلفة تعيد انتاج الانسان، فإما يتوافق مع نفسه وقيمه ومنطلقاته أو يترك نفسه لإعادة التشكيل من تأثيرات الآخرين، أو يترقب ويتميّز ويعدّل ويتفهم فيأخذ ما يتفق، ويلغي ما لا يتفق مع أفكاره وقيمه، وفي كل ذلك تبادل تأثيري كبير.

إن دوائر التأثير الثلاث المادية والافتراضية (في مرآة الشابكة أي الانترنت بالانجليزية) و"الخيالية العقلية" يجب أن تؤخذ بالاعتبار كلما تحدثنا مع الإنسان العادي، فكيف بالعضو المنتمي (ولو نظريا) للتنظيم عامة وللسياسي منه خاصة ؟ إن التأثير والتأثر قدرة متبادلة ، فكما تؤثر فإنك تتأثر إلا من أغلق باب عقله كليا وتجمد عند حدود لا يتخطاها أبدا، وللقدرة على التأثير حجم ومساحات ودلالات نحتاجها، ففي التنظيمات السياسية نحتاج لجذب أو تمتين علاقة ما، أو فصم أواصر أو تغيير رأي، أو اتخاذ قرار أو وضع خطة أو عرض مشروع عمل أو تثبيت موقف أو تسنّم درجة أو تبوء مكانة أو تقديم تقرير، أو مجرد دعوة واتصال وكلها بوابات للتأثير.

كل هذه النشاطات تحتاج منا لجهد مبذول عقلي وعملي من جهة، وتناغم واتساق من جهة أخرى، والتزام من جهة ثالثة، وفي كل الحالات فان (للتأثير) دور حاسم في تحقيق الهدف من عدمة وهنا مجال حديثنا.

يحتاج عضو المنظمة (التنظيم لسياسي) ليؤثر في غيرة لأغراض وأهداف عدة قد تكون خاصة أوعامة فهو مطلوب منه رسميا أن يعقد (أو يحضر) اجتماعات دورية ،ومطلوب منه أن يقدم تقريرا، ومطلوب منه أن يتزاور مع زملائه، ومع الجماهير ، ومطلوب منه أن يثقف نفسه ويثقف غيره، ومطلوب منه أن يشارك في مؤتمرات وندوات ومهرجانات وانتخابات ، ومطلوب منه أن يعدّ خطابا أو كلمة أو بيانا أو محاضرة، وقد يكلف أن يجهّز وينظم لندوة أو دورة، وعليه أن يُقنع ويجذب أعضاء جُدد للتنظيم، وعليه خوض نقاشات داخلية، ومع المنافسين لتنظيمه، فان كان هامشيا فكيف سيؤثر في الاخرين ، وكيف سيحقق (التغيير) في العقليات وآليات العمل والقيم إن لم يمتلك قدرة التأثير في الاخرين؟

إن النمر حيوان يقظ يتميز بالنبالة ، ويضع لنفسه حدودا مكانية من 30 الى 100 كم مربع لا يسمح لأحد بتخطيها ليعيش لوحده فوق أغصان الشجر وفي المناطق المرتفعة ، مدافعا عن اعتزاله وانفراده، بينما الأسد في حوزته المكانية يدافع عن طبيعته الاجتماعيه وأحبابه واتصالاته في المجموعة التي يتزعمها، ومع هذا الاختلاف الهام فكلاهما يتعامل مع منطقة التأثير والاهتمام أو "الحوز" المحددة بوضوح كما يسميها علماء الحيوان بمنطق الدفاع عنها ومنع التعدي عليها وحمايتها.

ولكل منا أكان انفراديا أو جماعيا منطقة (ذهنية عقلية نفسية) خاصة به، ومنطقة يسمح للآخرين أن يتقاطعوا مع بها بحدود، ومنطقة ثالثة عامة يتخالط الكل فيها إذ لا ترتبط بالشخوص، وفي "مجال الاهتمام" يختلف الشخوص، وعليه فان تقاطع "منطقة التأثير" مع منطقة اهتمام الشخص تشكل أداة تغيير على عكس كونك تلعب في منطقة تأثير هي ليست مجال اهتمام للآخر.

إننا بحاجة لأن نعيد بناء ذاتنا أولا فنقطة البدء بالتغيير تبدأ دوما من ذات المرء ومن نفسه فلو افترض أن الظروف تعاكسه وأن المسؤولين ضده، وأن لا أحد يساعده، فانه واقع حكما في "منطقة العجز"، حيث أنه خاضع للتأثيرات السلبية فقط ، وعندما تكون قدراته قابلة للتحكم بها من الخبرات ويقرأ ويثقف نفسه ويطوّر تجاربه فإنه على الجهة الأخرى حيث يصنع تغييره الذاتي أولا ليكون مؤثرا في الاخرين.

من لا يستطيع أن يقود نفسه ويديرها ويحترمها ويطورها ويتعامل معها بتقدير، ويتقبل ويتفهم ويعترف بالآخرين وبتأثيراتهم عليه، فكيف له أن يمتلك "أداة التنقية" وأداة الكشف لعوامل التطوير والتغيير والتأثير؟

إننا في واقع نتعامل فيه مع "مجال الإهتمام" و"مجال التأثير" ومدى التطابق أو التقاطع بينهما يجعل من قدرات التأثير المكتسبة عالية ، وكلما استخدمنا قدراتنا في خارج مناطقها لا ننجح.

إذ كيف لي أن أوثر في شخص أو تنظيم ينزع للاهتمام بالحيوانات البرية وأنا رياضي النزعة، أو كيف أؤثر في جماعة ثورية وأنا اصلاحي النزعة، أوكيف أُقبَل من جماعة أو شخص جُل اهتمامه بناء العلاقات مع الناس وأنا أنظّر له بجدارة بأهمية القراءة والتفكر؟ وكيف أستطيع أن أنتشل عقلا سلبيا يرى أن الهواء يحاربه ولا يجد قوت يومه، وأنا أشرح له عن معاني الكلمات في آية أو قصيدة شعرية جميلة؟ ان فهم المجال أو دائرة التأثير أساسي لاستخدام قدراتنا في مكانها الصحيح.

أن تؤثر في الآخرين هو أن تصبح أفكارك أو مواقفك أو آراءك أو تصرفاتك أو حتى مظهرك وقفشاتك ذات دلالة أو اعتبار أو اقتداء من الآخرين ، وأن تؤثر في التنظيم يعني أن يتقبل الآخرون طواعية (في التنظيمات الاستبدادية يكون التأثير اجباريا كما في تلك الفكرانية والمتطرفة والمتشددة) ما تريد ان تقول أو ما تفعل.

ونحن نحب ككوادر أو أعضاء في تنظيم سياسي أو اجتماعي أن نتسلم موقعا أو مكانة أو يكون لنا دور أو على الأقل نحترم ويتم الاستماع لنا ، ولا نهمل أو نهمش أو نترك جانبا وكأننا كنبة مهملة أو إطار سيارة احتياطي، وفي هذه الحالة نفقد تأثيرنا، وننخرط في "دائرة الاستبعاد" حيث تكون دائرة الاهتمام والتأثير قد اصبحتا بلاصلة.