اشراقات الإبداع.. وومضات الكلمة الشعرية في قصائد الشاعر التونسي القدير "جلال باباي"
تاريخ النشر : 2022-08-19 08:51

لعل من أبرز الخصائص المميزة للعمل الفني عموما والملفوظ الشعري خصوصا انه عمل يستفز المتلقي ويحمله على التفكير والتامل في كل حرف وكل كلمة بل يجعله يبحث عما خلف السطور وخلف الكلمات.

ومن هنا يمكننا القول أن الجمالية في الشعر جماليتان: هما جمالية الكتابة وجمالية التلقي .

فالطاقة الشعرية تتسع كلما اتسعت دائرة القرّاء لان كل واحد سيتناول النص من منظوره الخاص ويرى فيه ما لا يرى غيره .

ولا يفوتنا الإشارة الى أنه من شروط جمالية النص الشعري أن تكون المعاني والصور متمنعة مستفزة لا تسلم نفسها للمتلقي بيسر بل تحمله على أعمال فكره وقراءة القصيدة بترو، وبذلك يمكننا الإقرار بكثير من الإطمئنان أن النص الشعري نصان: نص مكتوب على ضوء رؤية صاحبه، ونص مقروء حسب رؤية المتلقي .

وهنا نستحضر قول تودوروف ”ان النظرة إلى الحدث الواحد من زاويتين مختلفتين يجعله حدثين منفصلين.. ."

وقد لا أجانب الصواب إذا قلت للشعرية أساليبها البليغة،ومؤثراتها المهمة في تفعيل الرؤية الشعرية في القصائد الحداثية المعاصرة، لاسيما حين تمتلك قوة الدلالة المكتسبة من شعرية الأساليب وتنوعها وغناها الجمالي بالتقنيات الفنية المعاصرة، فالشعرية -بالتأكيد-تثيرها الأساليب الشعرية المتطورة،ومحفزاتها الإبداعية الفاعلة في تكثيف الرؤية الشعرية،وتعميق منتوجها الإيحائي المؤثر.

في هذا السياق بالتحديد، تتجلى الرؤيا الإبداعية الخلاقة التي ترتقي بالنسق الشعري،وترقى بمستويات مؤشراته الجمالية للشاعر التونسي الكبير جلال باباي الذي أوحت لي قصائدة التي اطلعت على جلها وقاربت البعض منها مقاربات نقدية (يعاني شاعرنا الفذ جلال باباي منذ زمن من مرض عضال،حتما سينتصر عليه ونحتفي جميعا بهذا الإنتصار البهيج القادم سريعا)

وهنا أقول للقارئات الفضليات والقراء الأفاضل : لا ترتقي الرؤيا الجمالية إلا بمنتوج جمالي، وشكل جمالي جذاب؛ وهذا التفاعل والتضافر بين الإحساس الجمالي والشكل الجمالي هو الذي يرقى بالحدث الشعري، ومثيراته الجمالية..

وهذا ما تجلى بوضوح لا تخطئ العين نوره وإشعاعه في جل قصائد جلال باباي:

وهذه واحدة من قصائده المدهشة..فأضبطوا أنفاسكم قليلا:

وحيدا مثل الفقراء..الطيبين

أليّ..مثل طفل يكوٌر فرحه الجديد.

عند مرافئ طفولتي المزدحمة بالأغنيات

أقبل مثل الفتى عاريا من أحزاني

أحضن حبٌات رمل ساخنة

وشتات عطر قد بعثرته بلا هوادة رياح الشمال

وحيدا مثل الفقراء الطيٌبين

أتشظى قبل هطول المطر بالغمغمة

ثمٌ أبعث نقيٌا لا يأبه بغيمات الشتاء

أكوٌر فرحي الجديد

وأرتفع إلى أعلى من سدرة الحلم

أخاتل أرقي

أطلق بعيد الليل بشهرين

ضحكاتي الفاخرة

أوقظ عصافيري الجائعة

وأنتبذ لي الأرض عشا شامخا بنخوة الوطن.

15 أكتوبر 2020

(الشاعر التونسي الكبير جلال باباي)

أترك للسادة القراء حرية التفاعل مع هذه اللوحة الإبداعية التي نحتتها بمهارة واقتدار أنامل الشاعر التونسي الكبير جلال باباي..

*الشاعر التونسي القدير جلال باباي من ولئك الشعراء الذين انبجسوا من أضلع الأزمة الجميلة،وولدوا على أعتاب الهم الفلسطيني،وفطموا على نكسة حزيران ودرجت طفولتهم وترعرع شبابهم على تربة مليئة بالمتناقضات والماديات،وما صاحب ذلك من صراع بين الخير والشر،والمثل والفوضى،وما رافقها من ألم وجوع وحرمان وكذا صمود وشموخ،إضافة إلى القلق النفسي والغربة ةالإغتراب في وطن " معروض كنجمة صبح في السوق"..

هو شاعر متمرس لم تنل منه المواجع والإنكسارات قي زمن مفروش بالرحيل والخيبات إذ نراه دائما يبحث عن الذات في لجج البشرية المتصارعة من أجل تحقيق الانا .

جاء ليكون ثورة مدوية على أوضار المجتمع وأوزاره،ثورة على كل قديم بال،والتعمق داخل النفس الإنسانية،وسبر أغوارها،والشعور بما في أعماقها .

إنَّ جل قصائد الشاعر التونسي السامق جلال باباي إنما هي قصائد جماليَّة،ترتسم رؤيتها بهندسة نسقية متفاعلة الخطوط، والألوان،والإيحاءات،والظلال اللونيَّة،والإيقاعات الداخليَّة؛إذْ تتفاعل الشذرات التصويريّة فيما بينها بأنساق مؤتلفة تؤكد فنيّة القصيدة،وتنظيمها النسقي الفاعل لديه في إضفاء طابع جمالي منسق على اللوحة المشهديّة ككل،كما لو أنَّها مرسومة بريشة فنية دقيقة ترصد الأبعاد والمشاهد والرؤى بدقة متناهية للمتلقي.

وهذا دليل على مهارة شعريَّة فائقة في التقاط المشاهد؛وترسيم أبعادها بعناية دقيقة، وقدرة بارعة في التقاط الصور،الجزئية،والتوليف فيما بنيها؛ لتبدو ذات تموجات فنية، وبصريَّة، تثير القارئ بصريًّا، كما تثيره إيحائيًّا وإيقاعيًّا.

ختاما أقول : لا يستطيع قارئ قصائده من الوقوف على شائبة تصويريَّة،أو عثرة تشكيليَّة،أو هجنة إيقاعيَّة؛لهذا تكتمل مثيرات قصائده كلها في تعزيز جمالها وتناسق إيقاعاتها،كما لو أنها مُهَنْدَسَة فنيَّة لتأتي غاية في التفاعل،والتضافر،والانسجام؛وهذا ما يُحْسَبُ لشعريّة جلال باباي، أنها ممتدة امتداد الأفق؛تعايش عالم مفتوح غني بالمعارف،والمواقف،والإمكانات، والأيديولوجيات،والموروثات الأسطوريَّة المكتسبة.