الاسرائيلي والحرب الأهلية
تاريخ النشر : 2022-06-25 13:35

صادفت قبل يومين الذكرى ال 74 للاشتباك بين منظمة " إتسل " بزعامة زئيف جابوتنسكي وبين الجيش الاسرائيلي بقيادة بن غوريون. ذلك الاشتباك الذي أدعي الى مقتل 16 مقاتل من المنظمة التي صنفها البريطانيين كمنظمة ارهابية.

تعود جذور القصة الى الحادثة المعروفة إسرائيليا بسفينة " التيلينا / الهزّازة ، ALTALENA  بالإيطالية، وهو اسم مستعار اطلقه جابوتنسكي على السفينة. حيث قام الذراع السياسي للمنظمة بشرائها من الولايات المتحدة من أجل الذهاب بها لتحميل حوالى 1000 مقاتل غربي من فرنسا ليكونوا مقاتلين تابعين لمنظمة "إتسل" في فلسطين، كما أنها قامت بتحميل معدات عسكرية وطبية وحوالي 4 مليون رصاصة، وقدّرت الصفقة التي عقدتها المنظمة بحوالي 153 مليون مع فرانك فرنس وزير الخارجية آنذاك. أبحرت السفينة من فرنسا ووصلت شواطئ فلسطين المحتلة بعد خمسة أسابيع من قيام إسرائيل. حدث خلاف عميق بين بن غوريون وبين قيادة المنظمة وعلى راسهم مناحيم بيجن حول مكان تفريغ الحمولة وتوزيعها. أصر قادة المنظمة على تفريغها في تل ابيب حيث يتواجد أكبر عدد من قواتهم في المدينة وتوزيع السلاح على الوحدات التي تشكلها عناصرهم في الجيش الاسرائيلي، فيما رفض بن غورين و أصر بالمقابل على تفريغ الحمولة بمنطقة أخرى وتوزيع ما فيها الى قواته المتواجدة في القدس. وكان له ما أراد بيد أن الاشتباك وقع بين الجيش وبين عناصر المنظمة وسقط القتلى من الطرفين. فيما تذكر بعض المصادر أن بن غوريون قد اتخذ قرارا بتفجير السفينة بمن فيها، بيد أن المقاتلين التابعين له رفضوا تنفيذ المهمة وقالوا له " جئنا من أجل أن نقاتل مع اليهود، وليس ضدهم". خلاصة ما حدث هو تنازع قوى بين منظمة "إتسل" وبين الحكومة المؤقتة بزعامة بن غوريون على النفوذ في الجيش والسياسة في ظل اختلاف الرؤيا بين الطرفين – جابوتنسكي وجداره الحديدي، بن غوريون السياسي الذي يريد اعتراف سياسي دولي بدولته الناشئة-. بيد أن الروح الصهيونية التي سادت الجيل الذي أنشأ إسرائيل وتحمسهم للفكرة هي من منع حدوث حرب أهلية أو انقلاب عسكري آنذاك في الدولة الناشئة.

هل التاريخ يعيد نفسه؟

يقول المفكر " ماك توين: " التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه القافية". أي بمعنى آخر ان الصيرورة التاريخية تسير وفق منهج معين. وربما تشابهت النتائج مع اختلاف الطرائق المؤيدة إليها. وهذا ما ألمح إليه أيضا هنري كسينجر في مذاكراته.

بعد مرور حوالي 74 سنة على هذه المواجهة التي حمل فيها اليهودي سلاحه ضد شركاءه في المشروع الصهيوني يطفو الى السطح من جديد السؤال التالي: هل من الممكن ان تتجدد المواجهة بين اليهودي واليهودي؟

يعيش حوالي 451 ألف مستوطن في مناطق الضفة الغربية وحدها وهم يشكلون ما نسبته 5% من تعداد سكان اسرائيل، وهم في تزايد مستمر خاصة اذا ما علمنا ان عددهم كان بعد الرابع من حزيران 1967 حوالي 1500 شخص فقط. وتزايد العدد بشكل كبير اثناء فترة حكم مناحيم بيجن ( 1977-1983) خصم بن غوريون السابق.

نشرت صحيفة هأرتس بتاريخ 10/1/2021 احصائية عن اعمال العنف التي يقوم بها المستوطنين في الضفة، حيث انه 10% من هذه الاعمال كانت موجهة وبشكل مباشر ضد قوات الجيش الاسرائيلي. وعلى الرغم من اعمال العنف هذه إلا أن قيادة التجمعات الاستيطانية مدركة تماما لأهمية تجنيد الجنود الاسرائيليين لصالحهم، فحسب منظمة " كاسري الصمت الاسرائيلية" فإن المستوطنين يقومون باستقبال المجندين الجدد أشد استقبال، يقدمون لهم الطعام والشراب المعدّ منزليا، يعطونهم شرحا تاريخيا وجغرافيا عن المنطقة، شرحا سياسيا أيدولوجيا عن أهمية الاستيطان، ويقومون باستضافتهم في المستوطنات أيام الاجازات. وبالتالي وحسب هذه المنظمة فإن المستوطنين يشاركون قادة الجيش في الضفة في اتخاذ القرارات الميدانية ضد الفلسطينيين وتأمين مصادرة أراضيهم وحماية البؤر الاستيطانية الجديدة. ولمعرفة مدى تأثير المستوطنين على الجيش، حيث يفيد تقرير أعده مركز " مولاد الاسرائيلي للديمقراطية المتجددة ) عام 2017، أن حوالي  80% من قوى الجيش الاسرائيلي الموجودة في الضفة الغربية هدفها الوحيد هو حماية المستوطنين والمستوطنات. بمعني آخر يسعى المستوطنين الذين يشكلون 5% من التعداد السكاني الاسرائيلي الى تجنيد 80% من افراد الجيش المتواجدين في الضفة عبر برامج استقطاب متعددة. هم يستهدفون المجندين الجدد الذين من الممكن ان يكونوا قادة في الجيش في مراحل لاحقة من الخدمة العسكرية، أو قادة سياسيين بعد إنهاء الخدمة العسكرية، خاصة أن الجيش يعتبر بمثابة جامعة تخرّج القادة السياسيين. حيث وصل تمثيلهم الفعلي في انتخابات ابريل /2019 الى 12 عضوا في الكنيست أي ما نسبته 10% من العدد الاجمالي في الكنيست. وفي انتخابات العام الماضي وصل نفتالي بنيت وهو من كان رئيسا لمجلس المستوطنات الى سدة الحكم والذي اعلن مؤخرا عن انشاء وحدة قتالية تحت مسمى " الحرس القومي". مضافا إليه اعضاء آخرين مثل بن جغير – الصهيونية الدينية- الذين ترشحه استطلاعات الرأي حصوله على أخر من عشرة مقاعد في الانتخابات القادمة وبدون أي تحالف مع سموترش.

جندت الحركة الصهيونية اليهود حول العالم للهجرة الى فلسطين تحت الشعار الديني " ارض الميعاد " وجعلت منها ايدولوجية سياسية، وهذا ربما من مكن الحركة من اقامة الدولة، بيد أن الأمر مختلف نوعا ما حاليا، بمعني آخر، يتخذ اصحاب التيار الديني الصهيوني الاستيطان كقيمة عليا وأداة لتنفيذ وعد الرب لهم، فيما يرى التيار الحريدي عكس ذلك وأن الرب سبني دولة اليهود في حال ساروا حسب ارادته في حياتهم اليومية، والرب حينها سيقيم دولتهم بدون تدخل منهم. و أما التيار العلماني المتواجد في كثرة في منطقة المركز يرى من الضروري الفصل بين الدين والدولة، وغالبية التيار العلماني لا يؤيد الاستيطان ولا يرى بالتيار الحريدي شريكا له ايضا وذلك لانتفاء نقاط الالتقاء القيمي فيما بينهم

تقدّر اعداد الحريديم حوالي 10% من تعداد السكان وهم في تزايد مستمر. وتعبر مساهمتهم في النشاط الاقتصادي ضئيلة جدا. و يعتبرهم التيار العلماني مجرد عبء على اقتصاد الدولة.

تقدر نسبة التيار العلماني ومن يعتبرون انفسهم غير متدينين حوالي 56% حسب دائرة الاحصاء المركزي الاسرائيلي لعام 2021. وهم في غالبيتهم يعملون في قطاع الهاي- تيك وبعض دوائر الأمن كالموساد والشباك. أي أن تأثيرهم في الناتج القومي عالي ومؤثر.

فيما يرى ما نسبته حوالي 23% أنفسهم كيهود متدينين أيدولوجيين، وهذه النسبة تضم المستوطنين والداعمين لهم على حد سواء على مستوى الايدلوجيا، وكما أسلفنا فهم ينتشرون في مناطق الضفة ولهم نفوذ قوي داخل مستويات الجيش والسياسة.

خلاصة القول: التفاعلات الحاصلة في المجتمع الاسرائيلي ستؤدي حتما الى اشتباك بين مركباته، خاصة في حال الاتساع الأفقي- العددي – والاتساع العامودي – في الجيش والسياسة وأجهزة الأمن- لكل تلك القطاعات وبالتحديد بين العلمانيين والمستوطنين، خاصة أن الحريديم مجرد رقم لا غير في عناصر المعادلة- حاليا على الاقل-، وبالطبع هو صراع نفوذ على الدولة وأجهزتها المختلفة. مضافا إليه الاختلاف فيما بين تلك القطاعات حول تعريف ماهية دولة إسرائيل، هل هي علمانية، دينية حريدية، أم هي صهيونية دينية ! وهذا يعيدنا بالوراء الى السبب الحقيقي الذي ادعى الى الاشتباك المسلح بين اعضاء منظمة " إتسل " وبين الجيش الاسرائيلي بقيادة بن غوريون بعد خمسة أسابيع فقط من قيام اسرائيل، حين كانت الروح الايدولوجية الصهيونية هي الطاغية بين طرفي الاشتباك. لكن بعد مرور 74 عاما هل بقيت الروح الصهيونية هي ذاتها؟ وهل ستتمكن من منع الاشتباك مجددا ؟  في ظل الاستقطاب الحاصلة اليوم في المجتمع الاسرائيلي وتضارب المصالح الاجتماعية والأيدولوجية بين مركباته. فاللتاريخ قافية يسير عليها حتى لو ظهر بيت شاذ بين أسطر القصيدة.