في الجزائر: قمة عربية ومصالحة فلسطينية.. بين الأمنيات والمحاذير
تاريخ النشر : 2022-01-18 11:52

عندما تكون الجزائر هي من يترأس القمة العربية وهي من يدعو الفلسطينيين فمعنى ذلك أن هناك تغيير نوعي في طرح القضايا العربية، وموضوع المصالحة الفلسطينية.. فمما لا شك فيه أن الجزائر تتمتع بدور استثنائي تاريخي في المحيط العربي والساحة الفلسطينية لم يتسن لأي نظام عربي أو إسلامي آخر.

عملت الجزائر دوما على الحفاظ عليه من خلال سياسة مبدأية تعتمد النأي عن التدخل في المشاكل الداخلية في البلد العربي الواحد، وعدم قبول التمحور داخل البلاد العربية.. ولهذا سجلت الدبلوماسية الجزائرية انتصارات باهرة في عمليات المصالحة بين إيران والعراق، وبين مصر وليبيا، وبين الفصائل الفلسطينية.. هذا مع ثباتها على موقف مبدأي راسخ تجاه القضية الفلسطينية منحها دورها المتميز والمرجعي تجاه فلسطين.. وهذا كله مع مكانة الجزائر في قلوب العرب والفلسطينيين حيث الثورة التي حققت النصر العربي الوحيد في القرن الفائت على استعمار استيطاني إحلالي.. والسؤال الآن هل تنجح الجزائر بكل ذلك في اختراق الواقع المهترئ وإعادة الحياة الى الجامعة العربية وانقاذها مما آلت اليه وإنقاذ الموقف العربي وحمل الفلسطينيين الى طريق سواء من المصالحة والوحدة؟ هنا يبدو من المهم وضع بانوراما للمشهد العربي تجاه نفسه وتجاه فلسطين، والمشهد الفلسطيني تجاه نفسه. وبعد ذلك مناقشة الاحتمالات على الصعد المتنوعة فالعملية أشبه ما تكون بحقل ألغام ولا تكفي الأمنيات لتجاوز الراهن.. وهل هناك ضمانات نجاح؟
العناوين العربية الملحة:

بلا شك هناك تحديات مستجدة في ملفات متعفنة لابد ان تبادر القمة العربية في مواجهتها لانها تعدت حدود البلد الى الإقليم فالملف السوري الذي أصبح غاية في التعقيد على عدة مستويات لابد من تدارك العجز العربي ازاءه.. فلقد أصبح الوطن السوري مقسما تتوزعه أطرافه قوى مسلحة فيما النظام غير قادر ان يستغني عن التدخل الأجنبي الروسي والإيراني، ومن جهة أخرى فإن تشتت أكثر من 7 ملايين سوري على المهاجر أمر يدعو الى القلق من صيرورة تفريغ المنطقة العربية المركزية من شعوبها وضرب مجتمعاتها وتشتيتها.. معالجة ملف المهاجرين السوريين الذين أصبحوا في حكم الضياع والتيه الوطني يستلزم مناقشة سبل إعادة التوطين وتوفير شروط الامن والسلامة لهم، كما أن الملف السوري يستدعي موقف عربي حقيقي يضمن الامن والاستقرار في البلد ولقد سبق للعرب ان شكلوا قوات الردع العربية في لبنان في منتصف السبعينات لضبط امن لبنان وانقاذه من تداعيات الحرب الاهلية.. بمعنى واضح ان العرب أولى من الروس والإيرانيين والامريكان والاتراك بتشكيل قوات حفظ الامن في سورية بالتنسيق مع الجيش السوري والدولة السورية وتوفير شروط الانتقال السلمي للسلطة في ظل ما ينبغي أن يكون من حرص على وحدة الشعب والأرض، وهذا بالإضافة الى توفير السقف المالي لإعادة اعمار سورية وبناها التحتية..

ان أي حديث عن سورية لا يشمل هذه العناصر الأساسية سيكون بمثابة احتقار للزمن والمسؤولية، فلقد دمر النظام العربي سورية وأسهم بشكل كبير في المأساة وتركها لقمة سائغة للطامعين الإقليميين والدوليين ومن ثم طردها من جامعة الدول العربية، وهذا كله في ظل هجوم مركز على عواصمنا العربية في أكثر من مكان لتركيعها وجلبها الى مهانة التطبيع مع العدو وفرض صيغ حلول معه تفقد العرب حقهم في فلسطين وفي الانتفاع بثرواتهم ومواقعهم الاستراتيجية.

الملف الليبي هو الاخر واحد من القضايا العويصة التي تركها العرب أكثر من عشر سنوات بيد مبعوثين دوليين وامريكان وبريطانيين بعد ان سلموا بليبيا لقوات حلف الناتو وحرب ساركوزي الحاقدة على بلد عربي يحتل موقع الربط بين المشرق والمغرب، لقد تابع الحكام العرب عبر شاشات التلفزيون كيف تدك طائرات الناتو العاصمة الليبية والمدن الليبية الأخرى بل شارك بعض النظام العربي في هذه الكارثة ماليا واعلاميا وسياسيا.

الان ليبيا الكبيرة والمهمة للاقتصاد العربي والجي بوليتيك العربي مشتتة على عصابات مسلحة وزعامات مصنوعة من قبل المستعمرين وتشرف دول عربية على تعميق الأزمة فيها وتشد اليها أطراف التنازع المسلح وتتدخل روسيا بشكل سافر عبر مافيا السلاح وعصابة فانجر التي توغل في تعقيد المأزق الليبي.. وهذا كله بتدخل صهيوني واضح ليس فقط من خلال العلاقات مع حفتر وبعض القيادات الليبية، ولكن أيضا من خلال ارسال مجموعات يهودية لتسكن جنوب ليبيا حيث مناجم الدهب والثروات المعدنية الثمينة بتفاهمات مع التشاديين وبعض المجموعات المسلحة.

لقد ترك العرب ليبيا تتمزق وأهلها يعانون منذ 11 عاما غافلين عن الخسران المبين جراء تصرفهم ذاك ليس فقط على الجانب الاقتصادي والسياسي، بل أيضا على الجانب الأمني حيث تتحول ليبيا الى مصدر حقيقي للمجموعات المسلحة وللسلاح ينتشر في المنطقة ليدفعها الى مزيد من التعفن والتشابك.

ليس اقل من تحرك عربي مسؤول من قبل بعض الدول العربية لاسيما تلك التي تقف على مسافة واحدة من الجميع وان تكون هذه الدول مخولة تماما لفرض حل على الليبيين يأخذ بعين الاعتبار المشترك الليبي في إطار الامة العربية.. وذلك بتحريك العملية السياسية والمساهمة في بناء مؤسسات الدولة وتزويدها بالخبرات والقدرة على الوقوف على قدميها..
ليبيا الان مسرح متعدد الركح والمشاهد يكاد يكون النظام العربي المغفل هو من أسهم بشكل كبير لخسارة هذا البلد العربي ومن هنا بالضبط تصبح الدعوة قوة واضحة ملحة من أجل القيام بمسؤولية انقاذ ليبيا من خلال لجنة عليا وبرامج عمل وخريطة طريق قابلة للتنفيذ وان يتم ترتيب الخطوات بمشاركة الليبيين على المشترك بينهم من وحدة ليبيا وشعبها.
العراق وما يعانيه خلال 18 سنة من تمزق وتدخلات إقليمية ودولية ومن خلال نزف مستمر مثل الخسارة الكبرى في هذه المرحلة للعرب ولقد كان انهيار العراق بداية الانهيارات التي طالت سورية واليمن والمشرق العربي كله.. صحيح ان العراقيين بدأوا يتحسسون طريهم لبناء عراق لكل العراقيين لكن التدخلات الإقليمية والدولية في العراق تستدعي مد جسور المعونة للعراق واحتضانه وفتح الأبواب امامه فهو لايزال يخضع لقرارات دولية مجحفة ومن المؤكد أن موقفا عربيا مهتما بالشان العراقي سعني بوضوح ان العرب يستعيدون أحد اهم أعمدة نهضتهم ووحدتهم وقوتهم.

العراق ليس فقط قوة لنفسه، بل قوة للإقليم وهو كما كان دوما قوة اسناد للدول العربية في معاركها ضد الاستعمار وهو عمق فلسطين الاستراتيجي وقوة احداث التوازن المطلوب.. كما أنه بالضبط بوابة للشرور جميعا الطائفية والتدخلات الأجنبية والفتن العرقية لذا فان صم الاذان عما يطالب به الشعب العراقي وقواه الحية انما هو في حقيقة الامر تخليا عن واجبات الامن القومي العربي.

الملف اليمني الذي يشهد تشعبا وتشتتا واشتباكا إقليميا ودوليا تركه العرب سنوات طويلة قدم فيها الشعب اليمني تضحيات جسيمة على كل المستويات، ومن المعروف ان اليمن بموقعه الاستراتيجي على بوابة المندب والقرن العربي وموقعه في الجزيرة يعني بوضوح ان العرب خسروا أحد ضمانات امنهم القومي وانهم خسروا قوة توازن نفسي للخليج ودوله وسمحوا باختراق قوى إقليمية لموقع حساس واستراتيجي في لحظة تاريخية كان من المفترض ان يستجمع العرب فيها قواهم للتصدي للهجمة المجنونة التي وصل استهدافها الى دينهم بعد ان استبيحت ارضهم وهيبتهم..

صحيح ان الحوثي خروج عن الموقف العربي بل وحالة نزقة مجنونة مسكونة بالأوهام وهي تحاول فرض منطق قبيلة طائفية على شعب عريق متنوع بمذاهبه، وصحيح ان الحوثي يدخل في ذلك في محاور تشق الامة وتزيد من فتن الصراع فيها لكن بلا شك كان النظام العربي هو المتسبب الأكبر في نشوء هذه الحالة الشاذة في اليمن عندما اصروا على اسقاط النظام السابق وابعاد القوى السياسية التي لا تروق لهم كحزب الإصلاح اليمني وسمحوا للحوثي بالنزول من صعدة وتصدوا للقوى اليمنية العروبية فكانت النتيجة ان اقتطع الحوثي جزءا من اليمن فيما راحت الامارات تسرق الجزر والمواقع الاستراتيجية وتغرس في الجنوب خنجر الانفصال.. بالإضافة الى القصف الجوي على مدار سنوات عديدة لليمن من قبل ما يسمى بالتحالف العربي الذي يعبر في حقيقته عن غباء مستفحل سكن العقل السياسي العربي..

أيعقل ان ينفق العرب أكثر من 300 مليار دولار في حرب لم تتوقف ولم يحققوا بعد أي هدف سوى القتل، والتدمير، والتجويع، والتشتيت.. ماذا لو أنفق العرب عشر هذا المبلغ في ترقية الحياة في اليمن في مستشفيات ومدارس وجامعات وبنى تحتية وطرق، ماذا لو احتضن العرب اليمنيين لتوحيدهم وتشجيعهم على التماسك وطرد الايدي الأجنبية من بينهم وذلك من خلال تقوية الخير والايجابي في المن؟
وها هي الحرب تتوسع وتصبح الظهران وارامكو وجدة والرياض تحت مرمى صواريخ الحوتي وما يمثله ذلك من اهتزاز هيبة المملكة السعودية، بل ويتحرك أطراف المحور الشيعي لإشعال فتيل الفتن الطائفية في المملكة وها هي دبي وأبو ظبي تدخل حمام العنف، بالإضافة الى تحويل منطقة باب المندب الى مسرح تنافس إقليمي ودولي لكل قوات البحرية الإقليمية والدولية..

ان رؤية عربية ومقاربة سياسية أمر ضروري لإنقاذ اليمن وإخراج السعودية بماء الوجه من معركة خاسرة وهذا ينطلق من موقف حازم ضد الحوثيين والزامهم بالعملية السياسية لانتخابات يمنية بعيدا عن التوزع الطائفي وقطع أيدي الجميع عن التدخل في الشأن اليمني، فلا داعي للمبعوثين الدوليين ولا الاوربيين ولا الأمريكي انما بتشكيل لجنة عربية عليا خاصة باليمن ويكون قرارها ملزما للجميع مع أخذ الاعتبار بما سبق من معالجات فاشلة.

من الواضح ان جيران العرب من ترك وايرانيين مشتبكون معهم في ملفات عديدة العراق ولبنان وسورية واليمن ولهذا يصبح من الواجب وضع الية عربية لتنفيس الإحتقانات وبناء علاقات جيرة واخوة إسلامية مع بلدين إسلاميين كبيرين ترتبطان بالعرب بارتباط التاريخ والعقيدة والحضارة المشتركة.

الملف الفلسطيني هو الجرح المستمر الدامي الذي تزيده الأيام ايغالا ينتصب امام العرب ويلاحقهم، حتى لو أنهم تركوه وتخلوا عنه فهو يشدهم في امنهم واستقرارهم لان طرفه الاخر هو الكيان الصهيوني الذي انتقل الى خطوة جديدة من المشروع وذلك لتقسيم دول العرب واثارة الفتن وتبني الانفصالات والانشقاقات والحروب الداخلية وكذلك تطويق المنطقة العربية افريقيا بالإضافة الى تدمير عناصر القوة في المشروع العربي.. ان هذا الجانب في المشروع الفلسطيني ينقل الوعي الى الواقع فلم تعد فلسطين الجغرافيا هي الهم الاستراتيجي، بل ان امن كل دولة عربية أصبح في مرمى المخططات الاستراتيجية الأمنية الصهيونية.. وهذا فرع من الملف حساس وخطير على الجميع الانتباه اليه وبدقة ووضع آليات التصدي للمخطط الصهيوني في تقسيم البلدان وتشتيتها في إطار العملي،

اما مواجهة الاستيطان ومشاريع تهويد القدس وتغيير معالم الوطن فلسطين والعنف المتواصل في مواجهة أبناء الشعب الفلسطيني كل هذا يستدعي تحركا عربيا حقيقيا ومتابعة من قبل النظام العربي من خلال تشكيل لجنة عربية خاصة بذلك تقوم بالمهمة على خير وجه
وعلى محور اخر من الملف الفلسطيني هناك موضوع المصالحة بين فتح وحماس.. فلقد اثبتت التجارب الكثيرة السابقة فشل المحاولات والمقترحات والمبادرات ولقد تنقلت وفود حماس وفتح الى كثير من العواصم في المنطقة وخارجها التقوا حول الكعبة والتقوا في موسكو كما كانت الدوحة واسطمبول ملتقى لهم باستمرار اما القاهرة فكانت عاصمة لقاءاتهم ومبادراتهم ولم ينجح المقدس والشيوعي ولا المال في توحيدهم وحل الازمة،

فهل تنجح القمة العربية ومجهود الجزائر في ذلك.. نعم يمكن تماما ولكن بشرط ان تلامس المبادرة جوهر المشكلة.. يجب ان نتجاوز أي كلام سياسي لانهل اخلاف سياسي بين التنظيمين والخلاف فقط محصور في عنوان من يستلم السلطة والمنظمة فحركة فتح تتزود بالشرعية التاريخية وحركة حماس تتزود بشرعية الانتخابات التي حصلت قبل خمسة عشر عاما.. وكل طرف من الطرفين يتزود بأسلحته لمحاصرة الاخر والضغط عليه.. فالجزائر في مثل هذا التعقيد تستطيع ان تحل الازمة ان دخلت على تفصيلات المكاسب لكل من الحركتين وتوزيع المناصب والمواقع بما فيها السفراء والوزراء والمؤسسات والمجلس الوطني واللجنة التنفيذية بمنظمة التحرير والمجلس المركزي ودون ذلك لن يكون أي نجاح لاي جهد عربي او جزائري..

الملف الفلسطيني أصبح ممزقا ضعيفا هشا لان الغدة المركزية فيه مشتتة وممزقة ومضيعة وان أراد العرب بعث الحياة فيها فلا بد من اخذ الفصيلين بعيدا عن التماحك وذلك من خلال تشريكهما في المؤسسات الفلسطينية الفاعلة.. وتزويدهما بموقف عربي حاسم..
انها امنيات كثيرة، ولكن المحاذير ترافقها وتميل الى الترجيح بان فشلا عربيا إضافيا سيلحق بالمشروع العربي ولن ينقذنا منه سوى همة رجال كبار وإرادة حقيقية.