الحب من طرف واحد في فلسفة الأدباء
تاريخ النشر : 2021-12-01 17:53

تترنّح الرّغبة لتطمس في كيان متألّم لم يلقَ من محبوبه سوى الجفاء والتغاضي واللامبالاة؟

في لغة الأدب، توغّل كبار الأدباء في الانغماس بهذا الجرف العظيم للعاشق الذي يحمل وزر حبّه كالخطيئة الدامسة التي لا مخرج لها إلى النور، فمن يهواه ينأى عنه بكلّه وربّما يلجأ إلى الصدّ كمخرجٍ له، فتكون النهاية أليمة وحالكة، بل أحياناً مأساويّة، كما حدث في رواية آلام فرتر التي كتبها غوته عن قصّة حياته الحقيقيّة الذي بدّل نهايتها، فقضى على حياة بطلها فرتر بالانتحار من أجل محبوبته شارلوت التي كانت متزوّجة من رجلٍ آخر ولم تصافح عطشه بريق الأمل، رغم تعلّقها به، بل أمعنت في تعذيبه عندما طلبت منه في نهاية الرواية بأن يبتعد عنها، فوجد أنّ الحلّ الأخير قد يكون من خلال قتلها أو قتل زوجها أو قتل نفسه، فسارع إلى إنهاء حياته لأنّه لم يرغب أن يكون أنانيّاً في حقّ من يعشق. وقد أثارت تلك القصّة زوبعة عارمة في ألمانيا إذ تحمّس الكثير من العشّاق لها وحذوا حذو فرتر وهم يُممنون النفس براحة أخيرة بين طيّات العدم.
وقد وصف دوستويفسكي الحبّ بقوله: «فرحة الحبِّ عظيمة، لكن المُعاناة فظيعة، والأفضل للإنسان أن لا يحب أبدا». وهذا القول هو انعكاس على ما يحذره من تبعيّات الوجع الذي قد تولّده الصدمة إذا ما كان الحبّ وهميّاً أو خياليّاً يجوب برحاله في قلبٍ يصفّق وحيداً، من غير أن يعبر شغاف القلب الآخر، فيكون بصيراً ولكنّه غير مبصر، يسير كالكفيف في صرح النور.

وقد عبّر الكاتب الاسبانيّ أوكتافيو باث عن تجربته في الحب عندما قال: «الحبّ محاولة لولوج الآخر واختراقه علماً أن المحاولة لا تنجح إلا إذا استسلم الطرفان»، ولا عجب أن يبوح من خلال قصائده عن مكنون لواعجه التي تتداخل ببعضها بين اليأس والأمل في لججٍ متهافتةٍ من الاضطرابات الذاتيّة فيقول: «تمنى شفائي منك في هذه الأيام. عليّ أن أكف عن تدخينك، عن شربك، عليّ أن أكف عن التفكير بك، إنه لأمر ممكن. سأتبع التعليمات الأخلاقية أولاً بأول. أصف لنفسي الوقت، الغياب، والوحدة».

وقد تهاوى نيتشه الذي آمن بمفهوم القوّة الخارقة في طوفان الحب ولكنّه لم يجد صدى لبوحه عند معشوقته فاكتفى بالحلم واكتوى بتنهّدات الألم، ووضع فلسفته وأدبه رهناً لإشارة تتفوّه بها الحبيبة، وعندما فقد الأمل في نهاية المطاف وصف معاناته بقوله: «لا نجد علاجا فعالا ضد الحب، في أغلب الحالات، مثل ذلك العلاج القديم الفعال - مبادلته الحب». ويقال انّ قصّة حبّه قد ألهمته أفكار كتابه الأشهر «عندما تكلّم زرادشت» الذي جاء آية لدهاليز الفلسفة المقاربة للفضائل الإنسانيّة.

ومن أشهر قصص الحبّ في العصر الأموي، قصة مجنون ليلى واسمه الحقيقي هو قيس بن الملوح، وقد وقع في هوى ابنة عمّه ورفض والدها أن يزوّجها له، فجاب الصحارى عليلاً حسيراً وقد زفّت إلى غيره، وكأنّ الحبّ خفق في ناموس البادية فقد مات في حضن رمالها وترك لحبيبته أبياتاً تنمّ عن اليأس والقهر: «توسّد أحجار المهامه والفقرِ.. ومات جريح القلبِ مندملَ الصّدرِ.. فيا ليتَ هذا الحبّ يعشقُ مرةً.. فيعلمُ ما يلقى المحبُّ من الهجرِ».

أمّا حكاية الشاعرة الاميركية سيلفيا بلاث التي انتحرت بسبب الحب، فهي تراجيديا حقيقيّة تزدري الواقع وتسخّر روحانيتها للهوى القاتل. فقد أحبّت الشاعر تيد هيوز وربما بالغت في الانسياق وراء توقّعاتها منه، فرغم زواجهما وارتباطهما، إلا أنّه أحبط قلبها عندما قام بخيانتها مع الشاعرة آسيا ويفيل، فانفصلت عنه ولكنّها لم تتمكّن من لملمة حطام قلبها الذي تهشّم وتهمّش أمام جبروت هذه الصفعة، فأقدمت على الانتحار لتهرّب روحها من كوارث اليأس والعذاب، فكأنّها تهرب من الموت إلى الموت.

في رواية غابرييل كارسيا ماركيز «الحب في زمن الكوليرا»، يعبر الكاتب تخوم الجنون في قلب عاشق يبذل آماد أحلامه ويبسطها ويرتّقها من الشوائب في سبيل نيل رضا محبوبته التي لم تكترث كثيراً له، ولا عجب أن يعالج ماركيز هذه الفورة المتيقّظة من المشاعر الدفينة لحبٍّ يعزف مهجوراً على ناي الهجران وهو الذي قال: «فلنعجّل بالرحيل فما من أحدٍ يحبّنا هنا».

الحبّ من طرفٍ واحد لعنة تختنق في صدر المحب حتى يدرك النهاية ويتمرّغ في نفق الأمنيات، ليطالعه الفراغ المحتم بعد أوهامٍ يشيّدها بطوب الأمل وتنهار تحت نير اليأس، ولكنّه يطال الأدباء من دون سواهم بحجم الألم، ليبثّ فيهم الشجون ويثير فيهم مكامن الإبداع التي تغني الأدب وتُثريه، ولكنّها تكون بمثابة نعش الإحتضار لأرواحهم المبدعة، التي قليلاً ما تجد من يفهمها ويتقبّلها، بل يُساء تحليلها من قبل الغير لتظلّ وحيدة هائمة على وجه أحلامها في بادية من القفر والقحط المنعزل.

عن الجمهورية اللبنانية