زمن أميركا أولا
تاريخ النشر : 2021-11-21 12:39

كان من المفترض بدونالد ترمب أن يكون خروجاً عن القاعدة، بمعنى أنه رئيس له سياسته الخارجية الخاصة والمنفصلة تماماً، لكن مؤقتاً، عن المقاربة العالمية التي طبعت سبعة عقود من التفاعلات الأميركية مع العالم. إذ لم ير ترمب في التحالفات قيمة تذكر، إضافة إلى كونه من أشد الرافضين للمؤسسات الدولية متعددة الأطراف. لذا، حرص الرئيس الأميركي السابق على الانسحاب من الاتفاقات الدولية الموجودة كـ"اتفاق باريس للمناخ" و"الاتفاق النووي الإيراني" لسنة 2015، وتملص من اتفاقات جديدة أخرى على شاكلة "الشراكة عبر المحيط الهادئ"، وظل حتى آخر يوم في ولايته يلاطف الحكام المستبدين ويوجه سهام غضبه نحو شركاء الولايات المتحدة الديمقراطيين.

للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر كأن سياسة جو بايدن الخارجية تختلف كثيراً عن سياسة ترمب. أو ليس هو من يعترف بتقديره حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في أوروبا وآسيا، ويحتفي بالتعددية، ويشيد بالتزام إدارته بـ"نظام دولي مرتكز إلى القواعد"؟ أو ليس هو من يعتبر تغير المناخ تهديداً خطيراً وتحديد الأسلحة أداة أساسية؟ نعم إنه كذلك. ويضاف إلى ذلك أنه هو من صنف الحرب في زمننا الحالي حرباً بين الديمقراطية والاستبدادية، من هنا عزمه على عقد ما يسميه "قمة الديمقراطية" لإعادة ترسيخ القيادة الأميركية في القضية الديمقراطية وإعلانه بعد فترة وجيزة من توليه البيت الأبيض أن "أميركا عادت".

في المقابل، إن تلك الاختلافات، مهما جاءت محملة بالدلالات، فإنها تغفل حقيقة أشد عمقاً قوامها وجود استمرارية أكبر بكثير مما يعترف به عادة، بين السياسة الخارجية للرئيس الأميركي الحالي وتلك التي اتبعها سلفه. وقد برزت العناصر الحاسمة لهذه الاستمرارية أثناء إدارة باراك أوباما وقبل وصول ترمب إلى الحكم، في إشارة واضحة إلى حدوث تطور طويل الأجل، بمعنى أنه يشكل نقلة نوعية في النموذج الذي تتبعه الولايات المتحدة تجاه العالم. وتحت التقلبات الظاهرية، بدأت تظهر الخطوط العريضة لسياسة خارجية أميركية لما بعد "الحرب الباردة" [بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي].

لقد انبثق نموذج السياسة الخارجية القديم من الحرب العالمية الثانية و"الحرب الباردة"، ويرتكز على الاعتراف العام بأن الأمن القومي الأميركي يعتمد على أكثر من مجرد التعامل مع شواغل الولايات المتحدة الخاصة والمحددة في إطار ضيق. فمن أجل حماية مصالح العم سام المحلية والدولية والنهوض بها، لا بد من وجود راع يساعد على إرساء نظام دولي يكون قادراً على تعزيز أمن الولايات المتحدة وازدهارها على المدى الطويل، ثم رعاية استمراره، بغض النظر عما يعتريه من نقص. وعلى الرغم من خطوات خاطئة اتخذتها واشنطن (في طليعتها، المحاولة التي أسيئت قيادتها لإعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية بالقوة والحرب في فيتنام)، فقد أكدت النتائج، إلى حد كبير، صحة تلك الافتراضات. وربما تكون الولايات المتحدة قد تفادت الدخول في حرب قوى عظمى مع الاتحاد السوفياتي، لكنها مع ذلك أنهت "الحرب الباردة" بشروط مواتية للغاية. ومنذ انقضاء الحرب العالمية الثانية، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة ثمانية أضعاف بالقيمة الحقيقية، وأكثر من 90 ضعفاً بالقيمة الاسمية.

يدحض النموذج الجديد المبدأ الأساسي للمقاربة المستندة على أن الولايات المتحدة لها مصلحة حيوية في نظام عالمي أوسع نطاقاً، نظام يفرض عليها أحياناً القيام بتدخلات عسكرية صعبة، أو وضع تفضيلاتها الوطنية المباشرة جانباً لمصلحة المبادئ والترتيبات التي ستعود عليها بفوائد طويلة الأمد. ولا يعبر الإجماع الجديد انعزالية شاملة. ففي النهاية، فإن النهج المتشدد تجاه الصين ليس انعزالياً. بالأحرى، يعبر النموذج الجديد عن رفض تام للمقاربة الدولية. وصحيح أن بايدن اليوم تعهد "المساعدة في توجيه دفة العالم نحو مستقبل أكثر سلاماً وازدهاراً لجميع الشعوب"، لكن الحقيقة تتمثل في أن الأميركيين يتوقون إلى الاستفادة من النظام الدولي من دون أن يبذلوا جهداً في بنائه والمحافظة عليه.

الواضح أن ثمة تمسكاً شديداً بهذا النهج القومي الجديد إزاء العالم، ما ضمن له الاستمرارية على امتداد إدارات متباينة كتلك التي ترأسها أوباما وترمب وبايدن. في المقابل، هناك مسألة مختلفة تماماً تتمثل في السؤال عن إمكانية أن ينتج عن هذا النهج سياسة خارجية تعزز الأمن والازدهار والقيم الأميركية.

التبذير

على غرار ما يحدث عند أي نقلة نوعية في النموذج، فإن التبدل الذي يحدث الآن ما كان ليتحقق لولا الإخفاقات، الفعلية والمتصورة، التي حصلت خلال السنوات السابقة. لقد انتهت "الحرب الباردة" قبل 30 عاماً، بعدما دامت أربعة عقود، وخرجت الولايات المتحدة منها بقدر من التفوق لا يماثله سوى قلة من سوابق تاريخية، إن وجدت. ومذاك، أثبتت الولايات المتحدة أن لديها قوة هائلة بالقيمتين المطلقة والنسبية على حد سواء. وربما بولغ في التنويه بـ"لحظة القطب الأحادي"، لكن ليس إلى حد كبير.

إن ألقى المؤرخون نظرة استرجاعية على هذه العقود الثلاثة، لانتقدوا عن حق كثيراً مما فعلته أو لم تفعله الولايات المتحدة من موقعها كدولة عظمى. وهناك بعض الإنجازات المهمة كإعادة توحيد ألمانيا ضمن حلف "الناتو"، والتعامل المنضبط مع حرب الخليج 1990-1991، وقيادة الجهود الدبلوماسية والعسكرية نحو إنهاء الحرب والمذابح في يوغوسلافيا السابقة، وصياغة اتفاقات تجارية جديدة، وإنقاذ حياة الملايين بفضل "خطة الطوارئ الرئاسية للإغاثة من الإيدز" (بيبفار PDPFAR).

ولكن لا بد من موازنة هذه الإنجازات مع الخيبات التي هزت الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها، سواء بقرار منها أو نتيجة إهمال. ففي تلك الفترة، لم تبذل واشنطن سوى أقل الجهد في بناء العلاقات والمؤسسات، إذ افتقرت إلى الإبداع والطموح اللذين ميزا السياسة الخارجية الأميركية في خضم الحرب العالمية الثانية. ولم تكن مبالغة ألا يتردد دين آتشيسون، الذي عمل وزيراً للخارجية خلال إدارة الرئيس ترومان [امتدت ولايته بين عامي 1945 و1953، وقاد أميركا خلال المراحل النهائية للحرب العالمية الثانية]، في عنونة مذكراته "كنت حاضراً وقت الخلق" Present at the Creation فيما لم يجرؤ أي وزير/ وزيرة للخارجية في الحقب الأخيرة، على إدراج كلمة "خلق" في مذكراته(ها). وعلى الرغم من قوة الولايات المتحدة التي لا تضاهى، فإنها لم تفعل شيئاً يذكر لرأب الفجوة المتسعة بين التحديات العالمية والمؤسسات التي أنيط بها مواجهة تلك التحديات.

إن قائمة العثرات الأميركية طويلة. هنالك فشل واشنطن إلى حد كبير في التكيف مع نهضة الصين. كذلك أفضى قرارها توسيع حلف "الناتو"، في انتهاك لمبدأ تشرشل "الشهامة في النصر"، إلى تأجيج العداء الروسي من دون تحديث ذلك الحلف أو تقويته بشكل كاف. ولم تعط أفريقيا وأميركا اللاتينية سوى اهتمام متقطع، بل محدود. إضافة إلى ذلك، هنالك الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق عقب حوادث 11 سبتمبر (أيلول)، وقد أخطأت في تصميمها وتنفيذها فنتجت عنها تجاوزات مكلفة، وبالتالي، فقد جاءت كجزء من تركيز أكبر على الشرق الأوسط الأوسع، لكنه تركيز يتحدى المنطق الاستراتيجي. لقد استثمرت إدارتا جورج دبليو بوش وأوباما حيزاً كبيراً من جهودهما وسياساتهما الخارجية في منطقة لا يتعدى سكانها الـ5 في المئة من سكان العالم، ولا تضم قوى عظمى وتعول اقتصاداتها بصورة خاصة على أصول الوقود الأحفوري الضائعة.

لدى تقييم السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعد "الحرب الباردة"، يتبادر إلى الذهن كلمة "التبذير". لقد ضيعت الولايات المتحدة على نفسها فرصتها الأفضل في تحديث النظام الذي خاض "الحرب الباردة" بنجاح، ليتلاءم مع حقبة جديدة من التحديات والخصومات. وفي الموازاة، بفضل الحروب في أفغانستان والعراق، ثار الرأي العام الأميركي ثورةً عاتية على ما اعتبر سياسة خارجية فاشلة ومكلفة. وقد وصل الأمر بالأميركيين إلى حد تحميل قطاع التجارة مسؤولية انقراض الملايين من الوظائف الصناعية (مع أن التكنولوجيات الجديدة هي الملام الرئيس)، واستفحال اللامساواة تحت وطأة الأزمة المالية سنة 2008، ووباء كورونا المستجد، وموجة التشكيك الشعبوي بالنخبة. وفي مواجهة المشاكل الداخلية المتراكمة، من بنى تحتية متدهورة وتعليم رسمي متعثر، بات الأميركيون ينظرون إلى تدخل إداراتهم في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، باعتبارها إلهاء باهظ الكلفة. وقد مهد هذا التغيير الطريق أمام نهج جديد في السياسة الخارجية.
عن اندبندنت عربية