الضباب الصامت
تاريخ النشر : 2021-10-16 12:58

الملل ليس مزاجا، ليس اضطرابا، إنه شعور. وعادة ما يقود للاكتئاب في النهاية، والعديد من الأشياء المؤسفة أقلها هو الشعور السيء بالملل نفسه. فهي حالة وجدانية يفقد فيها الإنسان اهتمامه بالموجودات. سكون تام. بندول يتأرجح بك بين النعاس والضجر. شعور رافق البشرية منذ القدم، وهناك العديد من البرديات والنقوش من حضارات غابرة وثقت ذلك.

هل تعتقد أن أسلافنا لم يشعروا بالملل أبدا أثناء الجلوس حول النار وهم يغلون الشاي، المزارع، حيث بين الحرث والحصاد، ثم بين الحصاد والحرث، هناك زمن فارغ لا أنشطة يفعلها؟ الراعي الذي شعر بأن عمله لا يتطلب تركيزاً كبيراً لوقت طويل؟

في كتاب بعنوان "خارج جمجمتي: سيكولوجيا الملل"، يصف عالم الأعصاب، جيمس دانكرت، وعالم النفس، جون دي إيستوود هذا الإحساس على أنه حالة معرفية لها شيء مشترك مع متلازمة طرف اللسان، وهو الإحساس بأن شيئا ما مفقود، على الرغم من أننا لا نستطيع أن نحدد بالضبط هذا الشيء.

تقول عالمة النفس ساندي مان، في كتابها "علم الملل" أن "الملل هو الضغط الجديد"، حالة يتردد الناس في تقبلها، تماما كما كانوا يترددون في الاعتراف بالتوتر. لكني أشك في أن الملل سيصبح حالة يعترف الجميع بمعاناتها. فالاعتراف بأنك متوتر يعني أن هناك من هو بحاجة إليك، أو أنك مشغول. ولكن أن تقول إنك تشعر بالملل يوحي أنك تفتقر إلى الخيال أو المبادرة أو المسئولية.

في هذا السياق، الملل هو اللهاث المستمر خلف الإثارة، من أجل الحصول على ذريعة لإعطاء العقل شيئاً يشغله. الجوع الفطري للتحفيز والتفاعل مع شيء آخر غير عقولنا أو الاكتفاء باستحضار أحداث افتراضية.

أن مشاعر الملل تنتاب الإنسان بسبب وجود وقت الفراغ، وتدفعه إلى البحث عن أنشطة لكي يملأ بها وقت الفراغ الزائد المزعج. ولكن، متى أصبح لديه وقت زائد؟ إن يومي الجمعة والسبت الذي ينتظرهم الجميع، ثم يشكو الجميع من مللهم بنوبات من التثاؤب ومتلازمة النوم، يعبر عن فكرة المأزق الوجودي للإنسان في مواجهة الزمن الفارغ. لأنه يمثل لحظة المصارحة كأن وجودنا بلا معنى. نحن ننتظر وقت الفراغ لكي نرتاح من العمل ولكننا ما أن نمتلكه حتى نسعى إلى شغله بأي شيء، ثم لا نعرف بماذا أو كيف؟ حين لا يكون هناك من هدف محدد، ولا يكون الوقت وقت نوم، يكون هذا سبباً كافياً للملل.

بل ثمة فرضية إضافية، مفادها أن الملل سيزداد شراسة بفعل ارتفاع معدل عمر الإنسان جراء الثورات الجارية في مجال تقنيات الطب وعلم الجينات، وكذلك بفعل تمديد مرحلة الشيخوخة التي ستصبح أكثر مراحل حياة الإنسان طولاً. إن ملل يومي الجمعة والسبت يعطينا فكرة عن تقاعد طويل الأمد قد يستغرق عشرات السنين من الشيخوخة.

من السهل التفكير في الهواتف الذكية، الأنترنت، القنوات التلفزيونية، محطات الراديو، ومواقع التواصل الاجتماعي كمسكنات أو ترياق للملل ووسائل لإحياء الفضول، والحقيقة إنها تؤدي إلى الحيرة حيث يعجز الإنسان عن اختيار شيء يناسبه من بين الحجم الهائل للخيارات التي تضخها هذه الوسائل، فنحن نشعر به أمام التلفاز مثلاً ونحن نقلب القنوات باستمرار دون توقف. وكنتيجة تحولنا معها إلى أشخاص مدمنين نواصل البحث عن محفزات أسرع وأسهل ولكنها لا تؤدي في النهاية إلا إلى مزيد من الملل، جميعها خيارات تسلية وترفيه سريعة الإيقاع يشتتون المرء عن الإحساس الحقيقي بالملل لبعض الوقت، ولكنه سرعان ما يقضي عليهم ولا يقضون عليه.

أذن الاسترخاء على الأريكة مع كيس رقائق بطاطس وهاتف ذكي ليس حلا للملل، وبدلا من ذلك يجب البحث عن أنشطة تضفي إحساسا بالوجود، ولكن ماذا لو كانت الخيارات محدودة في مدينتي؟

في النهاية يرى بعض المختصين أن الملل ليس سيئاً بالضرورة، فبدل تجنب الملل، يجب الإصغاء إليه. فمع غياب أي تحفيز خارجي، يدفعنا ذلك الى الذهاب عميقا في أذهاننا، وهكذا يمكننا تحقيق قفزات في الخيال والخروج من الصندوق والتفكير بطرق مختلفة. وهنا تحديدا يتحقق الإبداع. يقول فريدريك نيتشه: "إن الذي يحصن نفسه تماماً ضد الملل يحصن نفسه ضد نفسه أيضاً. إنه لن يشرب أبداً إكسيراً أقوى من نبعه الداخلي الخاص".