مشاوي الزغلول عزفٌ على الربابةِ واليرغول
تاريخ النشر : 2021-09-25 14:25

اللطافة و"الزكاوة" والنظافة و"الطعامة" والذوق الرفيع والراحة العميمة والغبطة والسرور وانتعاش الروح وإمتلاء المعدة الحميد الرشيق الهنيّ و.. صحتين وألف عافية ..، تجدها كُلّها جميعها وغيرها ما يفيض ويزيد، مجتمعة متراكمة متكاتفة متعانقة في رُبوع واحة "مطعم ومشاوي الزغلول".

يقع المطعم في بلدة دير شرف، في جوار وغرب مدينة نابلس، في نقطة إلتقاء استراتيجية حيويّة، تشرف على الدوّار المُتفرّع منه الطريق القادم من نابلس، هبوطا من "وادي التفّاح" وامتدادا له، وإلى الطرق المؤدّية والمسافرة بإتجاه مدينة جنين وبإتجاه مدينة طولكرم وباتجاه مدينة قلقيلية، وبإتجاه جنوب الجنوب عبر مدينة رام الله وبيت لحم إلى مدينة خليل الرحمن، مدينة الخليل، وإلى عاصمتنا الأبدية زهرة المدائن مدينة القدس، التي يتعانق فيها المسجد الأقصى وقبّة الصخرة المشرّفة مع كنيسة القيامة.

"وادي التفّاح" يُذكّرني ولا بدّ أن أستذكر المعركة البطوليّة الشرسة الضروس التي خاضها أبطال "مُدرّعات الجيش العربي الأردني"، والتي أطلق عليها "معركة المُدرّعات" يوم 7 حزيران 1967، حين اقتحمت الدبّابات الإسرائيلية الغازية مدينة نابلس من جهة الشرق، من جهة بيسان، ووصلت إلى وادي التفاح غرب المدينة.

التحمت الدبّابات الأردنية في معركة بطولية شرسة بقيادة الشهيد البطل المُقدّم صالح عبد الله شويعر (أبو علي)، مع الدبابات الإسرائيلية المُعتدية، التي تفوقهم عددا وعُدّة. لكن المُقدّم أبو علي قاتل وقاوم ببسالة على مدى ثلاث ساعات ودمّر هو وطاقم دبّابته الشجعان: "ملازم أوّل سليمان عطية الشخامنة، ورقيب أوّل صباح فيّاض عوّاد الفقراء والجندي أوّل راشد موسى نمر العظامات"، عددا من الدبّابات الإسرائيلية، حتى نفذت ذخيرته تماما، لكنه لم يتوقّف، فقد أخذ "يُناطح" الدبّابات الإسرائيلية بدبّابته وجها لوجه وأعطب عددا منها.

حينها إستدعى الجيش الإسرائيلي طيران الميراج التي قصفت الدبّابات الأردنية وأطقمها الأبطال فسقطوا جميعهم شهداء.

لكن المفارقة العجيبة وربما المفهومة في مثل هكذا حالات في العسكرية والحروب أن قائد المعركة الإسرائيلي قد أدّى التحية العسكرية وجنوده إحتراما لبسالة ومقاومة المُقدّم أبو علي ورفاقه، وقاموا بحفر قبر له ودفنه مترافقا مع التحية العسكرية.

والآن يوجد في الموقع نصبا تذكاريّا شاهدا ماثلا يُمجّد بطولة هؤلاء الأبطال الأردنيين، ويقع النصب التذكاري في آخر منحدر شارع تونس الهابط من علٍ من شارع الجنيد. وربما تسمية الشارع بشارع تونس بوجود النصب التذكاري لأبطال "معركة الدبابات" على أرض نابلس "وادي التفّاح"، يُجسّد علاقة البطولة والإخاء ما بين الأردن وتونس وفلسطين. 

أمّا في مخيم بلاطة في الجهة الشرقية من نابلس، "جبال النار"، فنجد البطولة والتضحية والفداء متمثّلة وشاهدة في "المقبرة"، المقبرة المدفون فيها مئات الضباط والجنود العراقيين الذين سقطوا شهداء مدافعين عن عُروبة فلسطين أمام جحافل العصابات الصهيونية المسلّحة والمدرّبة من قبل قوة الإنتداب البريطاني الغاشم، عصابات الهاغانا والأرغون وشتيرن والبالماخ، في حرب عام 1948، وما زالت "المقبرة" قائمة شاهدة شامخة، "مقبرة الضباط والجنود العراقيين" هناك، في قلب المُخيم، الذي استقبل الآلاف ممن هُجّروا من مُدنهم وقراهم من فلسطين عام ال 48 بقوة السلاح والبطش الصهيوني والمجازر: مجزرة دير ياسين ومجزرة قبيّة ولاحقا مجزرة كفر قاسم.

ولا ننسى أبدا ومطلقا حين الحديث عن "مطعم مشاوي الزغلول" الطريق الواسع السديد السريع القادم من ثنايا وجنبات وسهول الساحل الفلسطيني المُحتلّ منذ عام 1948، يحمل معه عبق وعطر بيّارات البرتقال والليمون ونسائم يافا وحيفا وعكا والناصرة والجليل والمُثلّث ومئات بل آلاف الإخوة من العائلات الفلسطينية الأصيلة والمتأصّلة والمُتجذّرة كأشجار السنديان، التي تحبّ وترغب وتشتاق إلى قضاء فسحة من الزمان في المكان والمقام الذي يُحسن المقال والفعل والإستقبال بمشاويه "الزغلوليّة" التي يشتهيها ويستمتع بمذاقها ولذّتها أهلنا وإخوتنا فلسطينيي الداخل.      

حين تُصبح في المجال الحيوي، الأرضي الجوّي، "المياه الإقليميّة" لمطعم مشاوي الزغلول، "تُداهمك" غيمة، ضباب كثيف، من عبق رائحة المشاوي التي تُدغدغ الأنوف بقوّة وقدرة واقتدار، تسدّ الأفق أمامك وأنت في سيّارتك "تجهد" في أن تجد فسحة لإيقافها في "الباركينغ" المُخصص للسيارات الزائرة، لكن "المدبوز" عن بكرة أبيه بشتى أنواع وأحجام وألوان المركبات.

ومع "زحمة" السيّارات المتوقفّة وتلك التي على وشك التوقّف، إلا أنّك تجد ضالّتك، "الموقف"، بسهولة مُذهلة نتيجة لوجود شاب أو شابين يُنظّمان حركة دخول وخروج السيّارات، أو بصورة أدقّ، استقبال ووداع السيّارات والزبائن، بمنهى البشاشة واللطافة والمهنيّة العالية، توازي أو تقارب أو تُقارَن مع أداء "شرطة الإسكوتلانديارد" في لندن، مدينة الضباب.

لكن المفارقة الوحيدة الظريفة العجيبة في هذا الصدد أن ضباب لندن في شتائها يُخيّم على المدينة بسبب أحوال الطقس والمناخ، لكن ضباب مطعم ومشاوي الزغلول يُخيّم أيضا على فسحة المطعم وحواريّيه وجنباته لكن بعبق الرائحة الزكية بسبب "اللقاء الحميم" ما بين "لحم الكباب والشقف والرِيَش (الكوستيليه) وشيش الطاووق" وبين جمرات الفحم الملتهبة المُحمرّة، الممدودة في كوانين شواء طوليّة عملاقة، يُشرف عليها "شوّاؤون" مهرة ذوي باع وخبرة في "عالم الشواء".

في المرّة السابقة حين قدمنا للغداء في مشاوي الزغلول كان "الزبائن" "ينعفون" في المطعم وصالاته وجنباته وحتى في الفسحات الخارجية، وكان من الصعب، والحالة هذه، وجود طاولة شاغرة، لكن قبل ذلك وجود موقف للسيّارة.  وعندما كنت متوقّفا بالسيارة أنتظر "فرجا" ومخرجا إلا وظهر أمامي رجل خمسيني تبدو عليه علامات الوقار، يُلوّح بيده لي ويّشير إلى عمق موقف السيّارات لوجود موقف شاغر هنالك. توقّفت بسيّارتي ومن ثمّ بحثت عن الرجل لأشكره على اللطافة والمساعدة، لكنني لم أجده في التوّ والحال، بل وجدته بعد حين يجلس على مسافة ليست بالقريبة من طاولتنا. استوقفت أحد الندلاء وسألته:

- من هو ذاك الرجل الجالس هناك الذي كان في موقف السيّارات يساعد في تنظيم دخول الزبائن.

- هذا صاحب ومالك المطعم سيّدي، أجابني النادل بثقة وببسمة عريضة.

بالمناسبة أودّ أن أسجّل إعجابي الشديد بالشباب ندلاء مطعم ومشاوي الزغلول فهم إلى جانب نشاطهم وديناميكيّتهم ومهنيّتهم العالية وقفزهم كالنمور من طاولة إلى أخرى ومن وإلى المطبخ وإلى كوانين الشواء، فهم غاية في اللطافة والأدب والإنتباه والإستعداد لتقديم الخدمة السريعة والأكيدة، ومنهم ذلك الشاب النادل الظريف الأسمر، ذو اللحية المخروطية الطويلة السمراء، الذي خاطبته بتحبّب ب"بولحية" على طريقة اللهجة الدارجة الجزائرية.

وقتها تيقّنت من سبب ومسبّبات نجاح مشاوي الزغلول، إذ أنّ على رأسه رجل يُديره بكل هذا التواضع والإحترام، وبهذا الطاقم الرائع من الندلاء والطبّاخين والشوّائين، لا بدّ أن يكون "محجّا" لمئات وربما لآلاف الزبائن المُتحفّزين المُفضّلين لتناول وجبة شهيّة من المشاوي المشكّلة في ربوعه.     

ابني الصغير "حمّوده" كان مُتحفّزا وربما مُنفعلا و"أعصابه بايزة" حين اقترابنا من المطعم، إذ أنّه كان "كالرشّاش الأتوماتيكي" "يُطلق" عشرات الأسئلة كل لحظة عن ما إذا قد وصلنا إلى المطعم، لأنه كان جائعا، فقد تجاوزنا وقت الغداء بساعات، بسبب ارتباطات عائلية لنا في مدينة جنين الصامدة، .. جنين المدينة والمخيّم، جنين القسّام ومخيّم جنين الشهيد أبو جندل، وطبعا ودون شكّ ولا مواربة ولا "تلكّك"، عرين الأسود الستة، الستة نسور الذين قهروا "بنفق ملعقتهم" سجن وسجّان جلبوع.

وقد كتبت بكل فخر واعتزاز أربعة مقالات نُشرت في الصحف الإلكترونية عن عمليّة تحرّرهم وما بعدها.  

يقول ويزيد ويُردّد صغيري "حموده":

- أبي أنا جائع، متى نصل إلى "الزغلول"؟؟

لكن اجمل تعليق عميق بريء عفوي مباشر، دون تكلّف ولا تمحيص، كان تعليق ابنتي الصبيّة الفتيّة كارمن حين توجهنا ويممنا صوب عرين منبع المشاوي اللذيذة في "الزغلول" وأصبحنا على بعد "خبط العصا" منه، حيث علقت كارمن قائلة:

-  أبي، إنّ عبق طعم ورائحة المشاوي في الزغلول بقيت عالقة في حلقي وانفي لأكثر من يومين في المرّة السابقة حين تغدينا هنا.

فأجبتها باسما:

- أكيد يا ابنتي، فالمشاوي في "الزغلول" ترنّ وتصدح وتعبق كعزف الربابة واليرغول.

شهيّة طيّبة .. وصحتين وألف عافية.