إسرائيل ليست موحدة
تاريخ النشر : 2021-09-24 23:24

ونحن ننظر للتحولات اليمينية المتطرفة في نسيج المجتمع الصهيوني، وارتقاء الخطاب الديني الحريدي الصهيوني لسدة الحكم في الدولة الإسرائيلية المارقة، الذي اتكأت على الصهيونية العلمانية، وهيأ التربة للغوص عميقا في دوامة التطرف والعنصرية الفاشية، واوجد أساسا للشراكة المتينة بينهما حتى بدا المجتمع يتسم بالانغلاق والتزمت والتطرف الاعمى، واتسع نفوذ وحضور العنصريون في قطاعات منظومة الحكم السياسية والاقتصادية والقانونية والثقافية والدينية والاجتماعية.

وهذا نتاج التطور المنطقي لمركبات المشروع الصهيوني، لأنها حملت في صيرورتها صعود المجتمع إلى دائرة العنصرية والفاشية، ارتباطا بتركيبته وأهدافه وممارساته، فضلا عن عقلية الانطواء على الذات، والتموضع في غيتوات خاصة ومنعزلة عن المجتمعات، التي عاشوا بين ظهرانيها، ونتاج العقد التاريخية الملازمة لاتباع الديانة اليهودية في أوروبا، وترافق هذا الاتساع في التطرف والتغول الفاشي الصهيوني مع الأيديولوجيا الصهيونية الرجعية، والتغذية الرأسمالية الغربية له. غير ان جزءً لا بأس منه يعود للخوف من المستقبل، والعيش في دوامة الغيتو الوظيفية، مما دفع ويدفع قطاعات من المركبات الصهيونية بتلاوينها ومشاربها المختلفة إلى الغرق في متاهة التطرف كشكل من اشكال "طمأنة" و"مواساة" الذات، وحتى من حاول تجاوز مرتكزات الصهيونية التقليدية عاد للتطرف والتعصب بسبب الابتزاز من القوى المتحكمة في قرون الدولة ومؤسساتها، ونتاج التحريض عليهم من مؤسسات الحريديم والقوى الحزبية الصهيونية المختلفة، وحرمانهم من العمل، وتوجيه التهم لهم واعتقال بعضهم ... إلخ، ولنا مثال في العديد من اتباع ما بعد الصهيونية، الذين ارتدوا إلى جحور اليمين المتطرف.

وفي سياق القراءة الموضوعية لواقع الدولة الإسرائيلية، لا اعتقد ان الأهداف الاستراتيجية للحركة الصهيونية وقاعدتها المادية اسرائيل الاستعمارية موحدة، لان هناك الكثير من الذين أرغموا على الهجرة للدولة، لم يكونوا مقتنعين بها، وسيقوا اليها رغما عنهم، كما حصل مع اليهود الروس من الخزر ما بعد الثورة البلشفية 1917، حيث تواطأت الإدارات الأميركية ودول الغرب الرأسمالي الأوروبي آنذاك  مع الحركة الصهيونية لتوجيه الهجرة إلى فلسطين بهدف إيجاد القاعدة الاجتماعية لها، وهو ما حصل أيضا مع قطاعات واسعة من اليهود العرب قبل نكبة العام 1948 وبعدها، الذين اجبرتهم العصابات الصهيونية على الهجرة لفلسطين التاريخية لذات الغرض، ورغم الانقطاع عن بلدانهم الاصلية، إلا انهم مازالوا يحلمون بالعودة لها في حال أتيح لهم ذلك.

ولا يقتصر الامر عند ذلك، بل هناك قطاع كبير ممن اجبروا لاحقا وحتى يوم الدنيا هذا، او جاؤوا برغبتهم، واكتشفوا حقيقة دولة المشروع الصهيوني، مما دعاهم للتنكر للمشروع الصهيوني والدولة على حد سواء، ويرفضون كل الحالة الصهيونية ومخرجاتها، ويعيبون عليها اساليبها الوضيعة، ويبتعدون عن الأهداف المركزية لقيادة الدولة والحركة الصهيونية، وقد يبدو الان ان تلك الشريحة او الفئة قليلة، بيد ان هناك ظاهرة حقيقية امست ترفض البقاء في دوامة دولة المشروع، وكثيرون كتبوا ودونوا وجهات نظرهم بوضوح ضد الدولة المارقة. 

وكما أشرنا في البداية نحن امام دولة معقدة التركيب، وتعيش تناقضات شتى ومتعددة على أكثر من مستوى وصعيد بين العلماني والمتدين، بين الشرقي والغربي، والمستوطن الاستعماري الجديد والمستوطن القديم، الذي بنى وأصل للمشروع الكولونيالي على ارض فلسطين، وبين اليهودي والصهيوني، وبين الأجيال القديمة والجديدة، وبين المقيم في الدولة وغير المقيم من اتباع الديانة اليهودية في اصقاع الأرض، وحتى الانقسام بين الجماعات والكتل المختلفة، أي داخل كل مجموعة من المجموعات الصهيونية المنقسمة والمتناقضة، وتناقضاتها أحيانا تصل حد التناقض التناحري.

وعليه فان من يعتقد ان دولة إسرائيل الفاشية، دولة واحدة وموحدة وينظم حياتها القانون والاهداف الواحدة يكون مخطئا، لأنها دولة منقسمة على ذاتها، وفي ذاتها، وباتت عبئا على مستقبلها ومستقبل الصهاينة، الذين ينهلون من "لبنها" و"عسلها" مرارة وعلقما وندما وخوفا على مستقبلهم ومستقبل أطفالهم، وان بدت الصورة الشكلانية والخارجية عكس الاستنتاج انف الذكر.

وللمراقب مطلق مراقب إسرائيلي او فلسطيني او أميركي او غيرهم، ان يدقق النظر في التفكك البنيوي الداخلي، حتى داخل النواة الصلبة. قد يقول قائل: كل المجتمعات تعيش التناقضات والانقسامات، كما هو حال الشعب الفلسطيني، ورغم صحة هذا البعد في جانب منه، بيد انه يجانب الصواب في ابعاد أخرى، من أهمها ان الشعب الفلسطيني ذات تاريخ وهوية اصلانية وموروث حضاري تاريخي، بيد ان المجتمع الصهيوني عبارة عن مجموعة معقدة التركيب نتاج فسيفساء اثنية ودينية وطائفية ومذهبية وثقافية لا تقبل القسمة على بعضها البعض إلا لحساب المنفعة الانية، والتي يمكن ان تنتفي في كل لحظة من سيرورة وصيرورة الصراع. أضف إلى انها ذات دور وظيفي انتجها سادة الغرب الاستعماريون لتحقيق غايتهم وأهدافهم في الإقليم العربي تحديدا، وبالتالي المقاربة تنقصها الدقة، وتغيب عنها القراءة الموضوعية.

وإذا كان هناك قاسم مشترك بين المجموعات الاثنية المشكلة للدولة الصهيونية إضافة للمنفعة الانية والمؤقتة، فإنها تتمثل في تأبيد الاستعمار على حساب حقوق ومصالح الشعب العربي الفلسطيني، وهي مرتبطة جدليا ببعد المنفعة الشخصية، وارتباطا بالدور الوظيفي، الآيل للاندثار نتاج عوامل ثلاث، وهي: الأول إمكانية انتفاء الدور الوظيفي ولو بعد حين؛ والثاني التغييرات الاستراتيجية في معادلات الصراع الإقليمي والدولي، وبالتالي تغير موازين القوى؛ الثالث اتساع وتعمق التناقضات الإسرائيلية الداخلية، التي ستؤدي بالضرورة لحرب اهليه، وستهدم المعبد على رؤوس ساكنيه عاجلا ام اجلا. وبُعد اخر من تناقضات مركبات وخصائص الدولة الصهيونية، كونها دولة عسكرية بامتياز، تختلف اختلافا جذريا عن دول العسكريتاريا، التي تحكم شعوبها الاصلانية، كون كل مستعمر قديم او جديد هو جندي في احد أجهزة الدولة العسكرية، حتى أولئك الذين يتربعون على رأس الشركات والمؤسسات بمختلف قطاعات الاقتصاد والمال، هم بالأساس، ومازالوا جنودا في المؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وكذلك العاملون والمنضون تحت لواء الثقافة، أيضا هم جنود وشركاء في العملية الاستعمارية، واذا استدعتهم الدولة للقتال ينخرطون جميعا في كتائب عسكرية للدفاع عن المشروع الصهيوني، إلا من يرفض ذلك، وتعلم الدرس المرير من تجربته التاريخية، واستعاد عافيته ورشده الإنساني. وعليه فإن وجه المقارنة هنا أيضا ليس صحيحا.

النتيجة العلمية والواقعية تشير الى الانقسام في الداخل الإسرائيلي وفي جوانب الحياة المختلفة، وقد يتساوي في بعده الشكلي مع الانقسام العامودي والافقي في أوساط الدول والشعوب الاخرى، وقد يتجاوزها في العديد من ابعاده السياسية  والاثنية والدينية والثقافية والطبقية الاجتماعية.