التعايش مع الاكتئاب السعيد
تاريخ النشر : 2021-07-28 16:19

الاكتئاب عدو الحياة اللدود، وسفير الموت، هادم اللذات، يتسلل إلى مزاج المرء فيتلفه، ويضعه وجها لوجه مع سخف الحياة، وعبثيتها، وكأنه الواعظ الأكبر بعد الوحي، يسألك دائما: ما جدوى ذلك؟ وماذا بعد؟ ثم ماذا؟ ثم تتخلى رويدا رويدا عن كل شيء، حتى تتخلى عن نفسك! حالة من ال" شو يعني؟!"، وال "معلش"، وال"حصل خير"، في مواجهة متع الحياة، وفرصها، ومصائبها، حلقة تضييق شيئا فشيئا، حلقة تلتف حول الناجحين، الذين يفلحون بحرق المراحل، وينجزون كثيرا في وقت قياسي، ينجحون بأعمالهم، يحققون طموحاتهم، ويستطيعون الوصول، ليجدوا الاكتئاب ناصبا فخاخه هناك في أعلى السلم، لتشتد عقدته على قلوبهم: طيب وحصلت على كل شيء؟ ماذا بعد؟! لتبدأ رحلة المقاومة التي تعرف سلفا أنها كالحجر في مواجهة الدبابة، ولكنك مؤمن بقدسية الاشتباك، هذا الايمان يمكن أن يكون خاصرة الاكتئاب الرخوة! وكوة الجدار الحصين، وإن من عظيم رحمة الله، أن جعل لكل مكتئب كوة ما في جدار اللامعنى واللاجدوى الذي يحاصره، كوة من وعي، في خضم عاصفة اللاشيء التي تضرب حياة مريض الاكتئاب، قد تكون شخصا يحبه، مبدأ يؤمن به، خسارة يخشاها، مسؤولية لا يملك الفرار منها، ركعة يرجو أجرها، أو ذنب يخشى عقوبته، جحيم يخشاه ما بعد الموت، مثقال حبة من خردل من إيمان، أو نفس ديني يجعله قادرا على تحويل مزاجه العليل، حكمة وتأملا بحال الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

أيا كانت الكوة التي تتسلل إليك منها نسمات المقاومة، ستجد أنك تقاوم، فتمسك بتلك الكوة، وعب منها أنفاس الحياة، وحاذر أن تنغلق الكوة عليك، واجعل اكتئابك سعيدا، سيساعدك فخ الاكتئاب السعيد لسنوات، فحين تفقد حياتك المعنى، ستجد المعنى في حياة الآخرين، فاهرب من اكتفائك إلى كفاية الآخرين، وكلما كان الآخرون الذي تكفيهم محبة، أو دعما، أو مساندة، أو عونا، أسعد كلما وجدت المعنى! إن العطاء هو حالة من الهروب من إحساسك أن حياتك بلا معنى، وتتساوى بالموت، إلى منح حياتك القيمة من خلال ما تعنيه للآخرين: أهلك، أبناؤك، مستضعفون ترعاهم، أناس يؤمنون بك، أو يعتمدون عليك، لتبقى جذوة المعنى حاضرة في قلبك.

ستمر بسنوات من الاكتئاب السعيد، ستجد أنك بدل أن تنقطع شهيتك تأكل كثيرا، وبدلا من القلق والأرق، تنام كثيرا، وبدلا من الفشل أنت تنجح! ولكنك لست سعيدا!

عندما تبدأ حلقة الاكتئاب السعيد تطبق عليك، لتجد أن الشاورما لم تعد كافية لتحسن علاقتك بالحياة، وأنك صرت تخاف أن يأتي الليل، والآخرين أقل من أن يعطوا لحياتك القيمة، ستكون في الدائرة الأضيق، والأقرب إلى الأسوأ، عندها فقط ليس لك إلا أن ترضخ لذرة الإيمان الباقية في صدرك: قيمة الحياة هناك فيما وراء الموت! ستجد في هذا الإيمان ما يخفف هجمة اللامعنى عليك، أحط نفسك بمن يؤمنون بهذا المصير، فهم عونك على اجتياز جسر اللامعنى إلى الموت الآتي لا محالة، فتصبر بقدر ما تستطيع، وفوق ما تستطيع!

وتبقى الأزمات مكرمة الله لمرضى الاكتئاب السعيد، وكلما كانت الأزمات أقسى كلما شكلت رافعة قوية لهم للنهوض، خاصة حين تكون قابلة للاجتياز، فإذا أتاك من الله محنة، فتلقفها، وحاول أن تخرج منها كناج لا كضحية!

إن الاكتئاب الخفي، المعروف بالاكتئاب السعيد، على خطورته، إلا أنه رحمة الله القريبة من المؤمنين، تمكنهم من الاستمرار بالحياة، رغم فقدان شغفهم بأي أحد، أو أي شيء، تحثهم على تسخير كل ذرة إيمان في صدورهم، ليشتاقوا الآخرة، هناك حيث لا مرض، ولا ملل، ولا حزن، ولا اكتئاب!