القدس وتصاعد الوعي التراكمي في 5 عقود
تاريخ النشر : 2021-05-18 12:53

في زمن المعارك والمواجهات يحسن بنا الصمت والعكوف على الدعاء؛ لأن أصوات القصف أعلى وأوضح من الأصوات الأخرى، ويضاف إلى الوضوح اليقين والصدق، على قول الشاعر العربي الطائي (أبو تمام):

السيف أصدق إنباء من الكتب

في حدّه الحد بين الجد واللعب

وقد أشغلت بضع عشرات من الكلمات جمهور المحللين والإعلاميين والساسة وخبراء الشؤون العسكرية والأمنية على مدى أيام، وكل أدلى بدلوه حول ماهية الحدث القادم الذي جاء نبؤه اليقين يوم 28 رمضان لعام 1432هـ، الاثنين العاشر من مايو/أيار 2021 م.

كلمات بثت مكتوبة ونقلها عنه رفاقه وإخوته، فالرجل لا يملك حسابا في فيسبوك أو تويتر أو غيرهما من مواقع التواصل، والرجل نادر الظهور في الإعلام، وأغلب ظهوره مكتوبا لا منطوقا لدواعي الأمن.

رجل في العقد السادس من العمر تلاحقه أجهزة الدولة الأكثر تطورا في التقنية والاستخبارات في المنطقة، ولها يد طولى في العالم.. مطاردة مستمرة منذ عشرات السنين، تخللتها محاولات اغتيال لربما أصابته إصابات بالغة. ولم يكن الرجل ليتأخر والمصلون العاكفون في المسجد الأقصى يهتفون باسمه ويستغيثون به.

محمد ذياب المصري الشهير بـ"محمد ضيف وأبو خالد الضيف" الذي لا تعرف ملامح وجهه حاليا، وليس له سوى بضع صور قديمة، وجّه يوم 23 رمضان 1432هـ الموافق الأربعاء (2021/5/5) إنذاره وتحذيره الأخير للاحتلال الإسرائيلي فيما يخص حيّ الشيخ جرّاح، هذا الحي الرابض في بيت المقدس، وقضيته ملخصها وجود مستوطنين يهود يريدون طرد الفلسطينيين من بيوتهم فيه بالعربدة وقوة السلاح.. وزاد الاحتلال عدوانه بالاعتداء الواسع على المسجد الأقصى ومهاجمة المصلين فجر الاثنين (2021/5/10)، مما دفع الناطق باسم كتائب القسام، التي يقود الضيف أركانها، إلى الخروج ببيان يؤكد جدية الضيف بإعطاء إنذار حتى الساعة السادسة من مساء اليوم المذكور لكف يد العدوان عن المسجد الأقصى وإطلاق سراح المعتقلين على خلفية الأحداث الأخيرة.

ومع أن الاحتلال أدرك أن خروج الضيف شخصيا ليس فقاعات إعلامية ولا شعارات فارغة، فقد اختار الانحياز إلى الكبر وصلف القوة والعجرفة والاستكبار، فاندلعت موجة قتال لا تزال مشتعلة حتى كتابة هذه السطور.

غني عن القول إن (محمد الضيف) لم يتخرج من أكاديمية عسكرية في الاتحاد السوفياتي البائد أو الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو غيرها، وكتائبه التي تقارع أعتى قوة عسكرية في المنطقة لم تستنزف موارد الشعوب لشراء أسلحة تصدأ وتستبدل دون أن تستخدم، اللهم إلا في الاستعراضات أو في قمع الشعوب ودعم الثورات المضادة.. ومع ذلك فإن كلماته لها أهمية عند المؤسسة الإسرائيلية والأميركية ومن لف لفيفها أكثر من "هذر" أي حامل للأوسمة وتثقل كتفيه النجوم  من قادة الجيوش إياها.

محمد الضيف ولد ونشأ في مخيم خان يونس للاجئين الفلسطينيين، وقد شرد أهله من قريتهم في قضاء مدينة الرملة التي احتلتها العصابات الصهيونية، ذلك أن "جيوش العرب السبعة" في 1948 لم تستطع صدّها.. فهو البسيط ابن البسطاء، فليس من أبناء العائلات التي كانت تتزعم العمل السياسي وتتمتع بنفوذ اقتصادي/إقطاعي.. أي أن أسرة الضيف تكاد تمثل السواد الأعظم من الشعب الفلسطيني.. وبعد مراحل دعوة ونشاط طلابي وعمل تنظيمي وعسكري وجهاد ومطاردة لم تتوقف، صار الرجل من مقرري مسارات الأحداث وإعلان الحروب ووقفها في المنطقة.

بين حريق 1969 وعدوان 2021

حين استبسل المقدسيون مع أشقائهم في فلسطين المحتلة سنة 1948 مع أشقائهم من الضفة في الدفاع عن حرمة المسجد الأقصى، وقد أثبتوا على وجه الإطلاق والبرهان العملي أن شعار "بالروح بالدم نفديك يا أقصى" ليس مجرد كلمات عاطفية بل حقيقة قائمة، وحين هبّ أشقاؤهم في قطاع غزة لنصرتهم، بدت الأرض الفلسطينية بين النهر والبحر منتفضة غاضبة متمردة على حالة العجز العربي، دامغة بوصمة عار من اختار نهج التطبيع، حضرني وتملكني شيئان؛ الأول هو أن الله سبحانه وتعالى قد خصّ هذه الطائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بكرامة وشرف، وهذا تأكيد للحديث الذي رواه أحمد في مسنده وكذا الطبراني وغيره:

"لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين،

لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله.

وهم كذلك"، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟

قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس".

فكم يشعر عدوهم بقهر وهم في كل مرة يثبتون أنهم على الحق، فلا تنجح خططه في وضع بوابات إلكترونية على مداخل المسجد الأقصى، وخططه الإستراتيجية التي شملت الإسقاط والإغراق في الفساد والمخدرات والمشكلات والخلافات العائلية، لم تنزع منهم الشعور بأمانة التكليف الذي هو تشريف في انتظار أمر الله،

وكل هذه "اللأواء"، أي الشدائد والضيق والمصائب المتواصلة، لم تزدهم إلا عزيمة وإصرارا، أما من خالفهم ممن يعتبر أو يفخر بأن "قضية فلسطين ليست قضيتي!" فهو أقل من أن يزحزحهم عن حقهم، بل إن الذي يخذلهم ويخالفهم هو الخاسر خسرانا مبينا، فهو بهذا يبرهن على أن الله لم يمنحه هذا الشرف الرفيع بالمشاركة في معركة الذود عن ثالث المسجدين وأولى القبلتين ومسرى النبي المصطفى، بل حتى لم يحاولوا التمسح بأهل هذا الشرف كما يفترض ولو بكلمة طيبة ولو على سبيل المجاملة، فمن الذي باء بالعار والخيبة هنا؟!

أما الأمر الثاني الذي شعرت به هو أن 52 سنة حملت معها تغييرا كبيرا في حجم ومستوى الوعي التراكمي عند الشعب الفلسطيني؛ فقد تعرض المسجد الأقصى للحرق على يد المجرم المتطرف (مايكل روهان) في أغسطس/آب 1969 أي بعد احتلال الجزء الشرقي الذي يضم المسجد الأقصى من المدينة المقدسة بسنتين.

والحقيقة أن جريمة الحرق وما رافقها من تعطيل عمليات الإطفاء تظل أكبر مما جرى في مايو/أيار 2021 من حيث حجم الضرر ببنية المسجد، ولكن ردة الفعل الفلسطينية مختلفة تماما، ذلك أن هول صدمة هزيمة يونيو/حزيران 1967 كانت لا تزال تلقي بظلالها على الناس، كما أن الشعب الفلسطيني، مع مرارة الهزيمة واكتشاف كذبة صواريخ "الظاهر والقاهر" كان ما زال يرى أن ثمة أملا في حكومات العرب وجيوشهم ومؤسساتهم، فلم يقم بثورة أو هبّة بعيد جريمة الحرق.. أما في 2021 فقد أدرك أن ما "حكّ جلدك مثل ظفرك" والمثل الشعبي الفلسطيني يقول "ما بحرث الأرض إلا عجولها"، صحيح أن المسجد الأقصى يخص أمة المسلمين كلها وليس الفلسطينيين وحدهم، ولكن أدرك الفلسطينيون أنهم صاعق التفجير لطاقات الأمة، أو على الأقل عليهم دفع الصائل بما يملكون حتى يأتي أمر الله وتهبّ الأمة لنصرتهم والقيام بدورها.

أما العرب رسميا في 1969 فيروى أن غولدا مائير، التي كانت قد تولت منصبها رئيسة للوزراء قبل بضعة أشهر من جريمة الحرق، قالت إنها شعرت برعب كبير لم تشعر به طيلة حياتها حيث حسبت أن جيوش العرب ستكون صباحا في فلسطين غضبا وحمية لما حلّ بالمسجد الأقصى، ولكنها شعرت براحة واطمئنان حين رأت ردة فعل العرب والمسلمين تقتصر على الشجب والإدانة والاستنكار؛ وبغض النظر عن صحة الرواية، فإنها تعبر عن لسان حال غولدا إذا لم يكن هذا لسان مقالها فعلا.

وحاليا موجة الشجب والاستنكار والإدانة والرفض والتحذير من "الحرب الدينية" أقل وتيرة وأضعف مما كانت عليه قبل 50 سنة، ذلك أن من العرب والمسلمين من صاروا حلفاء وأصدقاء لإسرائيل.

ولكن في المقابل فإن الفلسطيني الذي تراكم وعيه ونما عزمه وتيقن أنه رأس الحربة يذود بما استطاع فيكون له نكاية في المعتدين، وشهادة السبق في الدنيا والآخرة إن شاء الله.