فلسطين بين صكين بلفور وأوسلو
تاريخ النشر : 2013-11-07 02:33

" إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية ". بهذه الكلمات القليلة العدد الخطيرة في مضمونها ومحتواها أصدرت الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عن الشمس وعدها المشؤوم في الثاني من تشرين الثاني من عام 1917 بكتاب وجهه وزير خارجية بريطانيا حينها آرثر جيمس بلفور إلى اللورد اليهودي الثري ليونيل روتشيلد استجابة إلى الضغوط المُغلفة بتمنيات قد مارسها هذا الأخير من أجل منح اليهود وطناً قومياً لهم في فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني بموجب اتفاقية سايكس بيكو عام 1916. وقد حرص بلفور أن يطلب من روتشيلد أن يحيط الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح. وما كان لذلك الوعد «الصك» أن يتحقق لولا التقرير النهائي الصادر عن مؤتمر الدول الاستعمارية الكبرى في عام 1907 والذي عُرف باسم «تقرير بانرمان وهو رئيس وزراء بريطانيا وقتئذ». حيث أقر التقرير أن منطقة شمال إفريقيا وشرق البحر المتوسط من المحتمل أن تكون الوريث للحضارة الغربية ولكن بسبب ما تكنه هذه المنطقة من عداء لهذه الحضارة يجب العمل على تقسيمها وعدم نقل التكنولوجيا الحديثة إليها وإثارة النعرات والعداوات بين طوائفها وزرع جسم غريب عنها يفصل بين شرق المتوسط والشمال الإفريقي. ومن هنا وجدت الحركة الصهيونية ضالتها المنشودة في حل مشاكل اليهود في أوروبا من خلال إقامة دولة يهودية في فلسطين فتبنت عائلة روتشيلد وتحديداً اللورد ليونيل روتشيلد فكرة حاييم وايزمان وناحوم سوكولوف وهما من مؤسسي الحركة الصهيونية بإقناع الإمبراطورية البريطانية السماح لليهود بإنشاء وطنهم على أرض فلسطين.

وبموجب هذا الوعد حققت الحركة الصهيونية أولى الخطوات العملية لإنشاء كيانها على أرض فلسطين بعد مرور عقدين على عقد مؤتمرها الأول في بال بسويسرا عام 1897. لتتالى خطوات السيطرة التدريجية عبر شتى الطرق والوسائل بما فيها تشكيل العصابات المسلحة الشتيرن والهاغاناه والتي جميعها ليست مشروعة وحسب بل غير أخلاقية أو إنسانية وصولاً للأساليب الإجرامية من خلال ارتكابها المجازر بحق الفلسطينيين الآمنين في قراهم ومدنهم وقصصها وشواهدها تملأ التاريخ القريب والبعيد والوثائق والشهادات المدموغة التي لا ترقى للشك فيها بأي شكل من الأشكال. ولم تتوقف المساعي الصهيونية عند ذلك بل سرعوا في عمليات نقل المهاجرين اليهود لفلسطين من أجل تسريع عمليات السيطرة على الأراضي الفلسطينية لإقامة الكيبوتسات والمستوطنات اليهودية عليها. ولقد مثلت مرحلة ما بعد قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة تحت الرقم 181 العام 1947 الأخطر في مراحل السيطرة الصهيونية على فلسطين حيث بدأت قوات الانتداب البريطاني تعد العدة من أجل مغادرة فلسطين وإنهاء انتدابها لها مما مثل الضوء الأخضر للحركة الصهيونية الاستعداد للسيطرة الكلية على الأراضي الفلسطينية بعد طرد جماعي لسكانها الأصليين خارج وطنهم والإعلان الرسمي لإنشاء ما يسمى بـ «دولة إسرائيل» في 14 أيار 1948 ليشكل اليوم التالي أي في 15 أيار 1948 التأريخ الرسمي لنكبة الشعب الفلسطيني وطرده خارج حدود وطنه الأم بعد أن تمكن الصهاينة من إلحاق الهزيمة بما سمي بجيش الإنقاذ بسبب تآمر وخيانة العديد من الرؤساء والملوك والأمراء على فلسطين وشعبها. ولم تتوقف الشهوة الصهيونية عند السيطرة على فلسطين العام 1948 بل استكملت مشروعها في السيطرة على باقي الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد هزيمة الخامس من حزيران من العام 1967.

وبذلك تكون دولة الكيان «الإسرائيلي» قد أسدلت الستار عن المرحلة الإستراتيجية في مشروعها الإحلالي والإجلائي في وضع يدها على كامل الأرض الفلسطينية . لينتقل بعدها قادة الكيان وبتشجيع وغطاء من الولايات المتحدة الأميركية إلى المرحلة الأكثر حساسية ودقة وهي تثبيت مشروعية الكيان الهجين في المنطقة من خلال عملية سياسية أساسها تسوية تفضي إلى إنهاء الصراع العربي «الإسرائيلي» حيث مثلت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان في العام 1978 باكورة هذا التوجه وهذه الرؤية القائم على حساب القضايا العليا لأمتنا العربية والإسلامية وفي مقدمها القضية الفلسطينية حيث تمكنت إدارة الرئيس جورج بوش الأب من عقد مؤتمر مدريد «للسلام» في العام 1991 والذي أفضى إلى التوقيع على اتفاقات أوسلو العام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الراحل عرفات والكيان «الإسرائيلي» برئاسة المقبور الإرهابي رابين وبرعاية الرئيس الأميركي كلينتون. والتي بموجبها تم التنازل عن 78 من أرض فلسطين مع ما تضمنه من صك للاعتراف الصريح بدولة الكيان «الإسرائيلي». وعليه فقد حقق الكيان ومن خلفه الحركة الصهيونية مشروعهم القائم على رؤية «أن فلسطين وطن بلا شعب لشعبٍ من دون وطن».

لقد شكلت التنازلات التي أقرتها اتفاقات أوسلو مسّاً للمحرمات الفلسطينية وتهديداً جدياً لمستقبل القضية الفلسطينية وعناوينها في القدس واللاجئين والحدود والأرض والمياه والسيادة والاستقلال الوطني. بل ذهبت في تداعياتها إلى أخطر ما جاء به وعد بلفور المشؤوم من ويلات على فلسطين الأرض والشعب. لأن هذا الوعد يفتقد لمنطق قوة القانون والشرعية كونه صادر عن دولة استعمارية منتدبة على فلسطين. بينما اتفاقات أوسلو عقد موقّع بين طرفين أحدهما يعبر عن نفسه على أنه الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وهي منظمة التحرير الفلسطينية. وعليه فإن أوسلو ألزمت الفلسطينيين بما لم يطالبهم به وعد بلفور وهو الاعتراف بدولة الكيان «الإسرائيلي».