رسالة إلى اللجنة المركزية لحركة فتح .. الانتخابات العامة ليست نُزهة (1)
تاريخ النشر : 2021-01-24 18:45

أخيراً، وبعد حوارات طويلة امتدت لسنوات (منذ الانقسام الفلسطيني في حزيران 2007)، جاء المرسوم الرئاسي الذي أصدره الرئيس محمود عباس يوم الجمعة 15/1/2021، بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني بشكلٍ متتالي، وكان قد سبقه قرار بقانون رقم (1) لسنة 2021م لتعديل قانون الانتخابات السابق، مع بعض الفروقات الطفيفة. وبصرف النظر عن الأسباب والدوافع التي أحاطت بهذا القرار، فإن الأمر المهم بالنسبة للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات هو أن تمثل هذه الانتخابات خشبة الخلاص له من كل المآسي التي عاشها على مدى الثلاثة عشر عاماً المنصرمة.

لكن السؤال البديهي الذي يراود كل مواطن فلسطيني: هل تمثل الانتخابات حلاً (جذرياً أو حتى مؤقتاً) للمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة منذ سنوات؟ وهل ستُفضي لنظاماً سياسياً موحداً يمكن أن يقودنا إلى الدولة الفلسطينية المنشودة؟

لا يبدو إلى الآن - لي على الأقل - أن سقف التوقعات من هذه الانتخابات مرتفعاً؛ وأنصح بأن لا ينخدع الجمهور الفلسطيني فيعاود الانتكاس للمرة الألف؛ فقد ألفنا سماع الوعود دون جدوى. فعلى مدى السنوات المنصرمة تراكمت في مجتمعنا ظواهر الفقر والفقر المدقع، وأجيال من طوابير الشباب الخريجين العاطلين الباحثين عن فرصة، مجرد فرصة للعمل أو حتى التطوع، وكذا الباحثين عن رحلة من رحلات الموت في عرض البحر للهروب من واقعهم المأزوم، أو المحبطين وفاقدي الأمل فلجأوا لتغيير واقعهم على طريقتهم الخاصة؛ بإنهاء حياتهم بأيديهم. وعلى مدى سنوات من انسداد الأفق سُحل المواطن البسيط أمام جبروت "الدولة" أو النظام الحاكم، فكفر بالدولة والأحزاب التي تقتله وتجوعه باسم الدين أو الوطنية؛ آلاف القصص الإنسانية المأساوية كانوا ضحايا «لفنتازيا الحكم» والاستئثار به.

هذا المقال ليست عملية جرد حساب لمرحلة سياسية نتمنى أن يُسدل عنها الستار، ولكنها محاولة للفت أنتباه المسؤولين وصناع القرار من قيادة الحركة الوطنية (تحديداً حركة فتح) بأن الانتخابات العامة ليست نُزهة، وأن اللجوء إليها كخيار رئيسي لإنهاء الانقسام الفلسطيني عملية محفوفة بمخاطر جمة؛ ذلك أن الانتخابات بحاجة لأجواء مواتية. «المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين»، فهل وعيت القيادة الدرس؟ لقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً مقابل أن تتعلم قيادتنا الدرس: إننا هُزمنا في قطاع غزة عندما فرطنا في الانتخابات البرلمانية (التشريعية). لا أريد هنا أن أنكأ جرحاً حاولنا أن نتناساه، ولا أقصد فتح ملفات قديمة لتقصي أسباب الفشل في الانتخابات التشريعية الثانية (25/1/2006) وتحميل المسؤولية عنها، رغم أنها عملية واجبة وطريقة صحية لتدبر الأمور، لكن أوان التقصي والمحاسبة قد فات، وما هو مُتاح أمامنا اليوم هو استخلاص الدروس والعبر المستفادة من تلك التجربة؛ لتفادي الوقوع في ما هو أسوأ.

ولعل أول هذه الدروس وأهمها أن «جماهير فتح» يجب أن تذهب لمعركة الانتخابات وهي راضية. لسنوات طويلة ونحن وكل المخلصين يحذرون من سياسة الإهمال وإدارة الظهر لقطاع غزة وهمومه، ولعله من نافلة القول: إن قطاع غزة هو الرافعة الحقيقة للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وخزان الأصوات الذي سيحمي الشرعية الفلسطينية من كل محاولات الاختطاف؛ ولعل «المليونيات الجماهيرية» التي خرجت في أكثر من مناسبة دليلاً وشاهداً على تجذر الفكرة الوطنية، ومدى حماسة الجمهور الغزية للتيار الوطني الذي تقوده حركة فتح. لقد كانت الجماهير دوماً على الموعد وحسمت رأيها وانحازت للقيادة والشرعية، فهل انحازت القيادة للجماهير؟ للأسف إن كل القرارات والسياسات الني اتُخذت بحق غزة كانت مجحفة وظالمة وغير مُتّزنة، وإلى الآن لم يتم مراجعتها رغم كثرة الوعود، والسؤال الذي يجب أن تفكر فيه القيادة ونحن عشية الانتخابات العامة: هل مازالت الجماهير على حماستها تجاه المشروع الذي تقوده حركة فتح؟ وماذا نتوقع من عشرات آلاف الموظفين الذين عانوا من التمييز في الحقوق الوظيفية الأساسية؟ وماذا عسانا أن نقول لآلاف المرضى الذين عانوا الإهمال أو/و التمييز في تحوبلات العلاج، أو الطلبة الذين انقطعوا عن دراستهم الجامعية لأنهم لا يملكون فاتورة التعليم؟ عن أي وطن وعن أي ثوابت سنُحدثهم في الحملة الانتخابية القادمة؟ وهل تكفي الشعارات أو الوعود المعسولة لسد جوعهم، وسداد ديونهم المتراكمة، وتعويضهم عن الأذى الذي طالهم؟ ربما يراهن البعض من دهاقنة السياسة أن ذاكرة الناس كذاكرة السمك؛ سرعان ما تتغير مع أول إنفراجة. لكني - كغيري من الآلاف - لست مطمئناً بأن قيادتنا الحكيمة قد وعت الدرس وتلقّفت الرسالة، ولست واثقاً بعد بأن الضربة التي لم تُميتنا في عام 2007 قد زادتنا قوة وحكمة؛ وإلا لانعكس ذلك على تصرفاتها وطريقة إدارتها للشأن العام. هذه المقالة، وهذا النوع من الكتابة قد لا يعجب البعض، كما لم يعجب بعضاً آخر سبق وحذرناهم في زمنٍ آخر، لكن للأسف لم يتمتعوا حينها بفضيلة التواضع والاستماع وبحاسة استشعار الخطر. وهذه على أي حال ليست دعوة للتعجيز أو الإحباط بقدر ما هي محاولة – مجرد محاولة – لإشعال الضوء الأحمر أمام القيادة.

الجماهير العريضة لم تُعط صكاً على بياض، وأزعم بأنها لم تعُد قادرة على تحتمل ما هو فوق طاقة تحملها. وثمة مقاربة خاطئة بأن متطلبات الصراع الوطني مع المحتل تجعل الجماهير تُغَلِب إلزامات هذا الصراع على حقوقها الأساسية في العيش والكرامة والعمل، وكأن الحركة الوطنية الفلسطينية المُنهمكة باحتمال الصراع مع الاحتلال تتمتع بفترة سماح مستمرة من شعبها..! وهذا افتراض غير صحيح، ويمكننا القول بثقة: إن السبب الرئيسي في هزيمة حركة فتح في الانتخابات التشريعية السابقة هو طريقة إدارتها للشأن الداخلي وما اعتراها من مثالب وسوءات؛ حتى أن فتح بتاريخها النضالي العتيد دفعت فاتورة أخطاء وفساد رجالات السلطة والحكومات المُتعاقبة، وكل خطأ أو إهمال ارتكبه مسؤول كبير أو صغير كان يَخصم من رصيد فتح في صناديق الاقتراع. ولا شك أن حركة حماس قد استغلت - حينها - تلك المثالب وسوقتها لجمهور الناخبين على أنها تفريط وفساد، فنادت «بالتغيير والإصلاح»، وبدت وكأنها تتبنى هموم المجتمع الفلسطيني، وخطفت من التيارات والأحزاب الوطنية انحيازها للجماهير. ولعل المزاج الشعبي الانتخابي اليوم أشبه ما يكون بتلك الحقبة، وأعتقد أن الناس ستنحاز لقضاياها الخاصة والعامة (الاقتصادية – الاجتماعية)، ولا أعتقد أن القضايا الوطنية ستلعب دوراً حاسماً في السباق الانتخابي؛ ذلك لأن البرامج السياسية بين المتنافسين (تحديداً فتح وحماس) أصبحت متقاربة إلى حد بعيد، مع اختلاف في الشعارات والأسلوب، فضلاً عن أن المجلس التشريعي المنتخب ليس مطلوب منه أن يحدد البوصلة السياسية، بقدر ما هو جهة رقابية على الأداء الحكومي وتشريعية لسن القوانين لصالح المواطن البسيط.

وخلاصة القول: نحن مطمئنون لرؤية فتح حول القضايا الوطنية الكبرى، والتجارب الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجال للشك أن القيادة الفلسطينية محافظة على الثوابت، وصامدة في وجه أعتى الرياح التي تحاول حرف بوصلتها. لكن ثمة قلق شديد من منهجية فتح في معالجة القضايا الداخلية، ومجموعة السياسات المُتبعة في الشأن الاقتصادي-الاجتماعي وهنا بيت القصيد. ليبقى السؤال المطروح على قيادة الحركة: ما هو الجديد الذي ستقدمه فتح لناخبيها بعيد عن الشعارات؟ الانتخابات العامة ليست نُزهة، ولن تكون كذلك. وإن أردنا الفوز في السباق الانتخابي القادم فعلى قيادة الحركة أن تُشرع فوراً ودون إبطاء في تغيير سياساتها/قراراتها تجاه قطاعات واسعة من الجماهير، وأول هذه القطاعات هم المستفيدين المباشرين من السلطة الوطنية (موظفين، والموظفين المقطوعة رواتبهم بتقارير كيديّة، تفريغات 2005، المستفيدين من الشؤون الاجتماعية، تحويلات العلاجية، وكوادر الحركة داخل الأطر التنظيمية ..الخ)؛ فهذه إجراءات واجبة على القيادة بحكم أنها «أم الولد» وليس عشية الانتخابات فقط. إن إبطاء القيادة أو تلكؤها في مثل هذه الإجراءات سيحرم فتح من فرصة المنافسة الجادة على صدارة المشهد السياسي في الانتخابات القادمة، والحذر كل الحذر من تأخيرها لعشية الانتخابات؛ وإلا ستُفهم على أنها «رشوة سياسية» الهدف منها حصد أصوات الناس، وليس إصلاح وتصويب لخطأ طال انتظاره؛ فالناس ليس لهذه الدرجة من السذاجة.

الانتخابات العامة ليست نُزهة .. وعلينا استخلاص العبر؛ كي لا نحصد المفاجأة. وللحديث بقية في مقالات أخرى بإذن الله.