الاستيطان (الخفايا الاقتصادية وآلية ضربه)
تاريخ النشر : 2021-01-21 17:52

إن عملية اكتشاف العمق الاقتصادي الصهيوني لا تتوقف على الرموز السطحية والمؤشرات الكمية، ولا تنفصل عن شقها السياسي والاجرامي حيث ينطوي التوسع الاقليمي بالضرورة على قدر من التوسع الاقتصادي، ولقد كان احتلال أراض عربية جديدة في حرب 1967 نقطة تحول بالنسبة للاقتصاد الصهيوني، إذ استطاع الكيان المحتل عندئذ أن يخرج من أزمته الاقتصادية الخانقة وأن يفك الحصار العربي حوله بصورة جزئية، فالأرض العربية المحتلة في الضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء، صارت سوقاً مكملة للسوق الصهيونية حيث تعتبر أولاً: مصدر عوامل انتاجية وبخاصة الأرض والخامات واليد العاملة للاقتصاد الصهيوني وثانياً منفذ لتصريف المنتجات، من غير أن يحول هذا الوضع دون ممارسة أسلوب الاستيلاء على أراضي العرب في كل حين لصالح المستوطنين اليهود الذين توجد مستوطناتهم وسط أرض مأهولة عربياً.

وهكذا تمكن الكيان الصهيوني بفضل ادماج اقتصاد بعض المناطق العربية المحتلة في الاقتصاد الصهيوني من تدعيم هيكلها الانتاجي وتخفيف حدة مشكلتها الاقتصادية، لكنها تمكنت من ذلك، بعد الاستيلاء على كامل الاراضي العربية الفلسطينية والجولان وسيناء آن ذاك، بفضل ما أقامت في هذه المناطق من أوضاع استعمارية على أسلوبين: الاول هو أسلوب التراكم البدائي من مصادرة للملكيات ونهب الثروات العربية، والثاني هو أسلوب التبادل غير المتكافئ وما يعنيه من استغلال مضاعف للعمل العربي، حتى لقد أصبحت الاراضي المحتلة تستوعب نسباً متزايدة من صادرات الكيان الصهيوني، جعلت منها أكبر مستورد منفرد للسلع الصناعية وثاني أكبر مستورد بصفة عامة بعد الولايات المتحدة الامريكية في تلك الفترة.

مشكلة الاقتصاد الصهيوني:
ومعنى هذا أنه إذا كان الكيان الصهيوني قد تحول من بلد زراعي إلى بلد زراعي صناعي، ومن الصناعة التقليدية ذات القاعدة المادية من الخدمات إلى الصناعات المتقدمة ذات القاعدة من العلم والتكنولوجيا، فما زالت تعتمد بالكامل على السوق الخارجية، إن لم يكن للتموين فعلى الأقل للتصريف، إن الاقتصاد المسؤول عن تخصيص نحو 30% من موارده للحرب، وعن جلب المهاجرين واستيعابهم، وعن مواصلة الاستيطان الزراعي، مسؤول في نفس الوقت عن تحقيق معدل نمو اقتصادي مرتفع وعن ضمان ارتفاع مستوى المعيشة لسكانه باستمرار، وبهذا فإننا نستعرض أنه وطبقاً للأسعار الجارية، تشير الاحصائيات التي ينشرها بنك الكيان الصهيوني إلى ارتفاع معدل نمو كل من الناتج المحلي الصافي والناتج القومي الصافي حتى لقد تضاعفت هذه المقادير نحو أربع مرات فيما بين عامي 1969 و1974.
ولكن المشكلة التي يواجهها الاقتصاد الصهيوني هي كيفية التوفيق بين ضرورات استهلاك يتجاوز الناتج القومي باضطراد، على نحو يضمن ارتفاع معدل نمو الناتج القومي باستمرار، ففي العام 1978 مثلاً كان كل من الاستهلاك الخاص والاستهلاك العام يستوعبان الناتج القومي الاجمالي بل يتجاوزانه، ومع ذلك فقد كان الاستثمار الثابت يمثل 25.2% من الناتج القومي الاجمالي.

ولهذا فإننا نعتبر الاقتصاد الصهيوني اقتصاداً مختلفاً، وحجتنا في ذلك أنه يعتمد على سلع محدودة تمثل أكثر من نصف اجمالي قيمة الانتاج المحلي من الموالح والماس والمنسوجات، وأنه يعاني من الخلل الكبير في التوازن بين هيكل الانتاج وهيكل الطلب بشقيه من استهلاك واستثمار، وأنه يعاني من انعدام التوازن بين التشكيلة السلعية والخدمية للانتاج المحلي والتشكيلة السلعية والخدمية للطلب المحلي.

خلاصة هذا العرض واضحة أن الاقتصاد الصهيوني لا يعيش إلا في ظل سياسة من التوسع الاقتصادي، تعتمد على الجمع في وقت واحد بين استهلاك متزايد واستثمار متزايد أيضاً.

إن تسليط الضوء على هذه الجزئية من الاقتصاد الصهيوني أي العقل الاقتصادي للعدو، لتوضيح فكرة هامة ألا وهي أن فكرة الاستيطان تمارس ليس فقط لأسباب احلالية لها علاقة بآلية التفكير المجرمة للمحتل، التي تتعلق بإجلاء أصحاب الأرض عن جذورهم التاريخية، وإنما لما أوضحنا سابقاً أن صمود هذا الاقتصاد المتناقض والمختلف يتمحور أساساً على التوسع، وزيادة السوق وبالتالي يحقق الاستيطان هذا الهدف على نحو كبير حيث تسبب الاستيطان المتواصل بتقليص مساحة فلسطين التاريخية، فلم يبق منها للفلسطينيين سوى حوالي 15 بالمائة فقط (تبلغ المساحة الإجمالية نحو 27 ألف كيلومتر مربع)، حيث تستغل دولة الاحتلال أكثر من 85 بالمائة من المساحة الفعلية. وقد مرّ الاستيطان بثلاث مراحل رئيسية؛ أولها ما بين عام 1967-1977 وتركز في القدس المحتلة وجنوب الضفة الغربية وبمنطقة غور الأردن. المرحلة الثانية1977-1990 انتقل البناء الاستيطاني إلى الضفة الغربية وتركز في محيط المدن الفلسطينية الكبيرة، وفي الثالثة وهي مستمرة حتى الآن، فاستهدفت "تل أبيب" إنهاء رؤية الخط الأخضر (خط وهمي يفصل ما بين الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 وأراضي الـ1967).

ورغم وجود قرار "2334"، والذي طالب الكيان الصهيوني بوقف نشاطاتها الاستيطانية بالأراضي الفلسطينية، فإن حكومة الاحتلال ضاعفت منذ بداية 2017 مشاريعها الاستيطانية. وأفاد مركز أبحاث الأراضي (غير حكومي ومقره في الخليل)، أن سلطات الاحتلال أنشأت خلال عام2017 ثماني مستوطنات وعملت على توسيع 60 مستوطنة، بالإضافة لبناء 3122 وحدة سكنية جديدة داخل المستوطنات الصهيونية، وأوضحت المعطيات الفلسطينية، أن سلطات الاحتلال صادرت أيضا 9784 دونمًا من الأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية والقدس المحتلتين، لأغراض استيطانية وعسكرية.
هذا يقودنا بالتالي إلى أن أول شيء يجب علينا التركيز عليه لمحاربة الاقتصاد الصهيوني هو محاربة الاستيطان، وكي نحاربه فإنه يجب علينا أن نحلل سماته وندرسها.

سمات الاستيطان الصهيوني في فلسطين "الملامح الاقتصادية":
تجسدت سمات الاستيطان الصهيوني في فلسطين من خلال أهم قواعده وهي:
1-احتلال الارض: اعتبرت الصهيونية الاستيلاء على الاراضي العربية في فلسطين أهم مبدأ أساسي، وكمدخل لابد منه، لفرض السيادة وتحقيق الهيمنة في البناء التحتي الاقتصادي في بلد يعتمد في معيشته على الزراعة، ولهذا اعتمد المخطط الصهيوني في البداية على أهمية السيطرة على أخصب الاراضي الزراعية وطرد الفلاحين العرب، ولتحقيق هذا الهدف اعتمدت المنظمة الصهيونية العالمية على ركيزتين اساسيتين، الأولى: تنظيم تدفق رؤوس الاموال الصهيونية لتنفيذ عمليات الاستعمار وشراء الارض، وتنظيم الهجرة اليهودية إلى فلسطين. الثانية: استغلال المناخ الدولي وفي فلسطين للإسراع في عملية الاستيطان الكولونيالي فعلى سبيل المثال، خطط الصهاينة للاستيلاء على أهم فرع اقتصادي في فلسطين في ذلك الحين وهو فرع الحمضيات، ولتنفيذ هذه المهمة اصدر مكتباً اقتصادياً تابع للصهاينة كراساً اطلق عليه "تنظيم الغرس في فلسطين" وزعته الحركة الصهيونية في مختلف البلدان الرأسمالية الاحتكارية بهدف جذب رؤوس أموال للاستثمار بهذا الفرع.

2- احتلال العمل: إن من أهم مبادئ الاستيطان الصهيوني في الممارسة العملية هو تهويد أماكن العمل أيضاً، وما يؤكد ذلك هو قول هرتسل في كتابه "الدولة اليهودية" : أية محاولة لجذب عمال غير يهود ستعرف الجمعية اليهودية كيف تحبطها بواسطة القاء الحرمان على الصناعيين المخالفين ووضع الصعوبات أمام طرق المواصلات.
صحيح أن هذا المبدأ لم يتحقق مباشرة، كون الهجرات لم تكن كافية لتحقيق هذا الهدف، إضافة إلى نقص خبرة المهاجرين اليهود في العمل، وفي هذا الاطار يشير بعض المؤلفين الصهاينة، إلى أن تنظيم هجرة يهود اليمن إلى فلسطين تدخل ضمن اطار احتلال العمل.


3-احتلال السوق: أو ترويج الانتاج العبري ومقاطعة الانتاج العربي، ويعتبر هذا المبدأ أحد الاركان الثلاثة للممارسة الاستيطانية الصهيونية، ومضمون هذا المبدأ هو اغلاق القطاع اليهودي في وجه البضائع العربية وغمر السوق بالبضائع اليهودية والتحكم والسيطرة على اسواق التصريف.

الضربة الاقتصادية .. مكافحة الاستيطان:
في الواقع إن هناك خطى محددة ومجربة اذ ما أخذنا تاريخ النضال الفلسطيني لمحاربة الاستيطان، أولها: بطبيعة الحال هي الكفاح المسلح والذي يمكننا تعريفه أنه الفعل الجماهيري الذي يأخذ صفة تنظيمية تارة وتارة صفة شعبية المتسم بحمل السلاح واستخدام العنف الثوري في نيل الحقوق، وهو الذي ينشأ عن بلوغ التناقضات الاقتصادية والاجتماعية أو القومية ذروتها، وفي حالتنا هناك تناقض "وجودي"، وتوفر وضعاً ثورياً يهيئ لها التحرك ضد سلطة الطبقة الحاكمة أو ضد المستعمر "المحتل"، وهو حق مشروع ومصان من قبل جميع الدساتير الانسانية ومنظمات الأمم المتحدة في الدفاع عن الأرض، وبهذا الصدد يعد القرار رقم 3034 الخاص بقانونية الكفاح من أجل التحرير أول قرار يصدر عن الأمم المتحدة وذلك بتاريخ 18/12/1972.

ونذكر أنه قد أسهمت الانتفاضة في تغيير مواقف الرأي العام الصهيوني من فلسطين، وأحدثت احترافات واختراقات في صفوفهم: وتشكلت 51 حركة داخل معسكر الاحتلال تدعو إلى الانسحاب من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. وقللت الانتفاضة من هجرة اليهود إلى الكيان الصهيوني وجعلتهم يفضلون الهجرة من الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، كما حدثت هجرة يهودية معاكسة من الداخل إلى خارج الكيان الصهيوني، لأول مرة منذ قيام كيان الاحتلال حيث تضاعف عدد المهاجرين إلى الخارج عن عدد اليهود القادمين وذلك فيعام 1988، إذ بلغ عدد اليهود المغادرين 21 ألف يهودي، بينما وصل إلى فلسطين المحتلة في نفس العام 13 ألف يهودي. كما انخفض عدد المستوطنين في الأراضي المحتلة عام 1967 من 70 ألف مستوطن إلى 20 ألف.

وثانيها: هي المقاومة الشعبية وتعرف بأنها أسلوب كفاحي يستخدم عند عدم تكافؤا موازين القوى مع العدو تجدي نفعا خصوصا إذا كانت شاملة لأفراد الشعب عامة وكان هناك قناعة بها والتفاف حولها.
وباستخدام أسلوب المقاومة الشعبية يمكن من خلاله أن نستفيد من عاملين هامين وهما: 1-دمج الغالبية الساحقة من أفراد الشعب في الصراع المباشر مع الاحتلال، وبالتالي تتوسع دائرة المناوشات مع الكيان، 2- زيادة المناطق الجغرافية المشاركة في العمل النضالي، فإذا كانت على سبيل المثال المقاومة المسلحة محصورة بغزة دون باق الجغرافية الفلسطينية، فإن المقاومة الشعبية تشمل كافة بقاع الوطن (ضفة وغزة والاراضي المحتلة في عام 1948).
ولنا في الخان الأحمر مثال حيث أحبط رباط مئات الناشطين الفلسطينيين والمتضامنين الأجانب، في تجمع الخان الأحمر شرقي القدس المحتلة، مشروعاً استيطانياً صهيونياً، فعلى مدى 4 أشهر، اتخذ الناشطون من خيمة التضامن في الخان الأحمر مقراً لهم للدفاع عن التجمع من الهدم والترحيل، وتصدى الناشطون لعدة محاولا تصهيونية لاقتحام التجمع، ما أدى إلى وقوع مواجهات وتصادمات واعتقالات.

وفي قرية بيت دجن الى الشرق من مدينة نابلس مؤخراً استطاعت المقاومة الشعبية تحقيق انجاز كبير، حيث تمكن المواطنون بالمقاومة والصمود والمثابرة من دفع قوات الاحتلال الى تفكيك البؤرة الاستيطانية التي أقامها مستوطنون على اراضي القرية محاولين بذلك عزلها عن مساحات واسعة من الاراضي التي تعود ملكيتها للمواطنين ومواطني القرى المجاورة في امتداد المساحات الواسعة نحو شفا الاغوار الفلسطينية.

وهذه ليست أول بؤرة استيطانية يتم تفكيكها تحت ضغطا لمقاومة الشعبية، فقد سبق تحت ضغط المقاومة الشعبية وبالمشاركة الواسعة من الأهالي ومن المتضامنين ان فككت  قوات الاحتلال بؤرا استيطانية حاول مستوطنون اقامتها في اكثر من مكان في الضفة الغربية، مرة على اراضي عصيرة الشمالية وأخرى على اراضي بيتا.
ختاماً فإن عملية المقاومة هي عملية مستمرة فإذا استطاعت أن تحقق الحصار الاقتصادي، فإنها يجب أن تستمر لتحقيق الهدف الكامل، الكامن في الحرية والعودة وبناء الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على كافة التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس واحدة موحدة