وجوه هذا الصباح
تاريخ النشر : 2021-01-09 13:22

تنظر من الشباك، شمس ربيعية لم تظهر بعد في مساحة السماء الزرقاء البادية لك، الطرف الآخر من المجمع السكني يحجبها بارتفاعه، لكنها تنشر ضياءها وتعلن نفسها بوضوح من خلال نشر ضيائها على بقايا الثلج في الساحة الخلفية للمبنى. يخطر ببالك أن تتكاسل اليوم، فهل تستسلم لهذه الرغبة في الراحة وعدم الذهاب إلى الجامعة؟ لم تستسلم للثلج ولا حتى لعاصفة ثلجية، إلاً تلك التي كانت فوق الاحتمال، ولم تستسلم للرغبة الطارئة بالتكاسل التي شدتك إلى الفراش ودفء البيت في الأيام الصعبة، فهل ستفعلها الآن؟ الأفضل أن تغادر الشقة سريعاً وتنفض أفكار التكاسل هذه، تعطي نفسك شحنة إيجابية وتقرر الانطلاق.

تهبط من الباص في موقف محطة المترو لتنطلق باتجاه الجامعة. أمامك خياران، إما محطة مترو سوفيه أو محطة مترو كوت فيرتو. في الشتاء والثلج تفضل محطة سوفيه لأنك في نهاية المطاف تصل إلى محطة باص توفر عليك حوالي ثلاثمائة متر من المشي على الثلج أو تحته، وهذا أمر يستحق. أما في غياب الثلج فالأفضلية تذهب لتصب في صالح محطة كوت فيرتو، هذه المحطة هي الأكثر تفضيلاً بالنسبة لك لأنها بداية خط المترو وبالتالي تضمن وجود مقعد تستريح فيه وتستغل الوقت بالقراءة هذا أولاً، ولأن محطة مترو مكغيل هي محطة الوصول التي تحبها والتي كانت ملتقى التعارف بينك وبين هذه المدينة الجميلة يوم جئتها أول مرة قبل أعوام.

على مدخل محطة المترو، يقف موزعا الجريدتين اليوميتين المجانيتين، جريدة "مترو" وجريدة "24 مونتريال"، يقف الواحد منهما إلى جانب رزم عديدة من جريدته وفي يده اليسرى كمية منها وتعمل يده اليمنى كمروحة أو كذراع آلة في مصنع، يطوي نسخة ويسلمها لمن يريد من الذين يتدفقون صباحاً كسيل بشري على المحطة. الأول خمسيني أو حتى ستيني بشوارب بيضاء والثاني شاب ثلاثيني أسمر البشرة. تأخذ نسخة من كل منهما على الرغم من أنك لا تعرف الفرنسية، لكنك صرت تعرف عدداً لا بأس به من المفردات وتفهم ما تعنيه دون أن تستطيع لفظها، تأخذ النسختين وتتصفح العناوين في أقل من خمس دقائق، تبحث عن عنوان لافت أو صورة، لتبحث بعدها عن الموضوع بطريقة أخرى، وتأخذهما لأن بسمة الموزع الممزوجة بتحيته الصباحية تستحق أن تستجيب لرغبته في التوزيع، ويمكنك كذلك أن تستفيد من النسختين بعد تصفحهما على طاولة الطعام.

تهبط الدرج المتحرك، القطار على الرصيف يطلق إشارة الاستعداد لإغلاق الأبواب فيسرع البعض على الدرج للقفز داخل العربة قبل إغلاق الأبواب. لا تفعل ذلك، فالقطار اللاحق سيأتي بعد ثلاث دقائق. لا تنتبه عادة لسائق المترو، في كثير من الأحيان تصل الرصيف والقطار ينتظر الانطلاق، وحتى إن أقبل وأنت في الانتظار لا يلفت نظرك السائق أو السائقة.

هذا الصباح أقبل المترو من الطرف البعيد للمحطة وفي قمرة القيادة بانت صبية متوسطة الحجم، بشعر قصير ووجه مستدير عليه علامات الجدية، مع اقتراب القطار على بعد أمتار تلمح قرطاً يلمع في أذنها، صورة لا تتناسب مع صورة تقليدية لسائق باص أو مترو، ومع اقترابها كانت على محياها جدية وكانت منتصبة القامة دون تجهم، مسترخية، هل كانت تبتسم، ربما، وإن لم تكن فإنك تستطيع الجزم بأن وجهها كان بشوشاً. تتذكر سائق الباص في القرية أيام طفولتك، كنت تحيط صورته بهالة إعجاب وأنت تراه خلف عجلة القيادة يحادث الركاب وهم يردون عليه، لسائق الباص مكانة اجتماعية تجعله موضع إعجاب. تضحك في سرك وأنت تتخيل مشاعره لو حدثته عن هذه الصبية التي تقود قطاراً، بالتأكيد سيقول لك أنها إحدى علامات الساعة. يمضي القطار إلى نهاية المحطة لأنها المحطة الأخيرة في هذا الخط، وسيغير اتجاهه ويعود خلال أقل من نصف دقيقة.

تجلس وتفتح الكتاب لتقرأ. لقد عدتَ لقراءة الأدب بكثافة بعد أن أنهيت ما كان يشغلك عنه أو يتشارك معه من الكتابة الأكاديمية. بالأمس أنهيت رواية حليم بركات "إنانة والنهر"، شدتك في قدرتها على تصوير المجتمع، واليوم تبدأ بقراءة رواية "الضفاف الأخرى" لإسماعيل فهد إسماعيل مستعيداً قراءات سابقة من أعماله، تتذكر خاصة رواية المستنقعات الضوئية، فتتذكر السجن، وتتذكر الوطن، فتعبر المحيط نحو الوطن.

تعيد الكتاب إلى الحقيبة، تسحبك الصور بترابطها العجيب إلى الوطن، صورة سائقة القطار ذات القرط اللامع والمستنقعات الضوئية ألقتا بك في نفق الزمن، نفق متعرج كنفق المترو هذا الذي ينطلق فيه القطار، وتسارعت الصور من سائق باص القرية إلى القرية، إلى فرحة ركوب الباص ووصول المدينة والتجول مبهوراً بشوارعها وسياراتها ومحالها ونسائها،

لقد سحبك نفق الزمن بعيداً في مساره المتعرج، تضحك وتهز رأسك، كيف وصل تعرجه إلى كل هذه الصور، وتنقلك المستنقعات الضوئية إلى السجون والسجناء وتحضر صور الزنازين وغرف السجن ورفاق القيد. تحاول أن تلجم سلسلة التداعيات التي انفتحت على مداها، لا تريد الاستمرار في هذه التشعبات، حتى لا تسهو ويفوتك النزول في المحطة التي ستغير فيها القطار من الخط البرتقالي إلى الخط الأخضر. لا مجال للعودة للكتاب، تشوش التفكير، تشعبت القنوات،

ابحث عن شيء يعيدك إلى اللحظة، مارس عادة تصفح الوجوه في القاطرة، تمسح الوجوه المحيطة محاذراً أن تتقابل عيناك بعيون الآخرين. تراودك نفسك أن تخطب فيهم، يا أيها الناس، أنا من هناك، وهناك يذبح الإنسان وأنتم لا تدرون، يقتل الحق، تموت حقوق الإنسان، ألستم من يقدّس حقوق الإنسان؟ تمسك نفسك وتعيدها إلى الوجوه، تسكتها، تهدئها. تعود إلى الوجوه، قطار الصباح وجوهه ذات طابع خاص، وجوه عليها بقايا النوم، أناس يشربون أكواب قهوة التقطوها على عجل من مقاهي تيم هورتون أو سكند كب قرب المحطة، صبايا بوجوه طازجة المكياج، آخرون منشغلون، يركزون على ما بأيديهم، تلك المنشغلة بحل الكلمات المتقاطعة أو بمربعات سودوكو، وذلك الشاب المندمج فيما يسمع من خلال سماعات الأذن، وذلك الذي يراجع أوراقاً أخرجها من حقيبته الجلدية الفاخرة.

انتبه! الصوت يعلن اسم المحطة القادمة، أوقف كل سرحانك، حضّر نفسك، لا تنس حقيبتك، انهض، ضعها على ظهرك وتوجه نحو الباب عبر الأجسام الواقفة، جيد أنك اخترت المقعد المقابل للباب الذي سينفتح من الجهة اليمنى، حتى لا تزاحم كثيراً للمرور من بين الواقفين لتصل الباب.

تخرج من قطار الخط البرتقالي لتغير إلى الخط الأخضر باتجاه مقصدك. تسير وسط الذين سيغيرون اتجاهاتهم، إما غرباً أو شرقاً، جارتك في الصف الذي يتحرك مسرعاً امرأة إفريقية تحمل صغيرها على ظهرها بالطريقة الإفريقية التقليدية وتتجه نحو الدرج المتحرك نحو رصيف الاتجاه الغربي، تحمله ليس باستعمال الحقائب الحديثة التي يستعملها الآخرون، قطعة قماش كبيرة تلفها عليه وتلفها حول جسمها بقوة وتمشي واثقة ووجهه الجميل يقابلك،

يوزع النظرات على المحيطين، تبتسم له، وتتذكر كيف كنت تحمل طفلتك الأولى بحقيبة أمامية فتبدو كالكنغر يحمل طفله في جرابه الطبيعي، كان الأمر غير مألوف أو حتى مستغرباً في ذلك الوقت. تتذكر نساء جنوب إفريقيا حين زرتها مراقباً وسط فرحتهم بالانتخابات الديمقراطية الأولى. كان منظرهن منطلقات والأطفال على ظهورهن يثير فيك الإعجاب والاحترام ممتزجاً مع الشعور الطاغي بالفرح، فرح الفلسطيني لكل انتصار للمضطهدين. تصل السيدة أعلى الدرج الكهربائي المتحرك وعيونك على الطفل وتقنع نفسك بأنه هو الآخر ما زال ينظر إليك، ثم غابت السيدة، لا غاب الطفل، أنت لم ترّ وجه السيدة حتى، ولكنك رسمت لها صورة من أمومة مكتملة الحنان والهمة في انطلاقها نحو مقصدها، غاب الطفل وصورة بسمته وعينيه اللامعتين حاضرة.

تضع قدمك على الدرج المتحرك الهابط نحو رصيف الخط الأخضر المتجه شرقاً، القطار على الرصيف يطلق إشارة التحضير لغلق الأبواب، تفكر في الإسراع عسى أن تلحق به، لكنك تزجر نفسك "انتبه! لا تسرع على الدرج، الأمر لا يستحق". أغلقت الأبواب ومضى القطار.

الإعلان على الشاشة الإلكترونية المعلقة يشير إلى أن القطار التالي سيصل بعد ثلاث دقائق. تقف وعيونك على الاتجاه الذي سيأتي منه القطار. تجد نفسك تراقب قدومه بانتباه زائد، تسأل نفسك "ماذا؟ هل تتوقع سائقة أخرى بقرط يلمع في إذنها؟". تبتسم وتجيب "ربما". يقبل القطار، السائق رجل، لا ترى ملامح وجهه، لكنه أشيب الرأس.

في المكتب، تعلق المعطف، ثم تخلع الحذاء الثلجي الثقيل، وتنتعل حذاء خفيفاً، تضغط مفتاح الكمبيوتر، لتبدأ يومك بمطالعة جرائد الوطن من خلال الإنترنت. يطالعك الخبر على الصفحة الأولى "الأسرى في سجون الاحتلال يبدؤون إضراباً عن الطعام".

تصيح بدون صوت "أين العالم؟ إلى متى؟". تنادي أصحابك الذين شاركوك هذا الصباح، يستجيبون، تراهم في مسيرة تضامن يتصدرها موزعا الجريدة وسائقة المترو الشابة ذات القرط اللامع والمرأة الإفريقية مقبلة بوجهها الذي رسمته لها وتحمل الطفل المبتسم كالكنغر أماماً وليس على ظهرها، يبتسمون لك، يمدون أياديهم ويسحبونك من الكرسي لتنهض وتنضم إليهم في مسيرتهم.