رفيقتي المحبوبة شجرة الكينيا
تاريخ النشر : 2021-01-01 20:43

من بين أشجار الاحراش التي احببتها وما زلت أشعر بالراحة بالجلوس تحتها في الصيف هي شجرة الكينيا وقد كانت منتشرة بكثرة في قطاع غزة في الخمسينات خاصة على طول ساحل البحر وحي الشيخ رضوان في غزة هو في الأصل كانت ارضه عبارة عن غابة كبيرة من هذة الأشجار التي تم قطعها بتخطيط من سياسة الاحتلال الإسرائيلي في إطار تفريغ مخيم الشاطئ من ساكنيه اللاجئين ..شجرة الكينيا وارفة ظليلة تحافظ على اوراقها خضراء طوال العام وأذكر اني اول مرة رأيتها كانت أمام مبنى الايبسي التابع لوكالة الأمم المتحدة والذي كان يقع على طريق صلاح الدين الرئيسي شمالا إلى بيت حانون وقرب محطة سكة الحديد القديمة يومها كنت صغيرا لم ادخل المدرسة الابتدائية بعد وقد أمسكت بثوب امي الاسود الغزي تغمرني السعادة وهي تقودني في الطريق لزيارة احد الأقارب.. قريبا من شاطيء البحر كان يوجد كوخا لمختار العائلة الحاج داوود رحمه الله وكان هذا الكوخ الصغبر وسط أرضه في المنطقة التي كانت تعرف في ذلك الزمن بالسيفه وكانت أمامه شجرة كينيا كبيرة وكان الفدائيون في ذلك الزمن بقيادة المقدم المصري مصطفى حافظ يستريحون فيه بعد عودتهم من القيام بعملياتهم الفدائية داخل فلسطين عام 48 وفي ليالي الصيف حيث الجو داخل الكوخ حارا لا يطاق كانوا يقضون وقتهم للراحة تحت شجرة الكينيا حيث يضع كل واحد منهم سلاحه الكارلو وهو مدفع رشاش صغير تحت ابطه للحصول على إغفاءة قليلة ... اذكر ان محمود ابن المختار وهو مثل سني اخذني يوما انا َوثلاثة من أبناء العائلة إلى هناك كانت شطحة سعيدة أردنا التمتع برحلة بعيدة عن جو الحارة وعن التجمع قرب دكان الزهري الصغير المبنى من أحجار الطوب في مواجهة باب مسجد الايبكي ..في ضحى ذلك اليوم اخذ كل واحد منا رغيفا من خبز الطابون وقرن من الفلفل الأخضر الحار وحبة من البندورة وفي منتصف الطريق اوقفنا ابو ابراهيم وهو مزارع في المنطقة يعرف المختار الحاج داود ويعرف ابنه محمود أيضا ولابد أنه يعرف أيضا عن وجهتنا بأننا جئنا من غزة إلى هذه المنطقة في شطحة للمتعة وحين رأي ما حملناه من زاد بسيط أعطانا قنينة كبيرة مملوءة بمياه البئر كانت بيده يشرب منها بعدها مشينا على طول الشاطئ حتى وصلنا الكوخ وحينما فردنا البطانية لنجلس شعرنا بالدفء فيما كان البحر وقتها هائجا والرياح تضرب فروع شجرة الكينيا والأشجار الحرجية القريبة منها...و هاهي شجرة الكينيا كانت أمامنا في عصر ذلك اليوم تتمايل بشدة أكثر وانا علي بعد خطوات منها .فقط . . .. في عام 56 من القرن الماضي بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع في يوم ٧ مارس جاءت الفرصة المناسبة لاقترب من شجرة الكينيا أكثر فقد انطلقت المظاهرات الصاخبة في كل مناطق القطاع وكغيري من الأطفال حيث كان عمري في ذلك الوقت لم يتجاوز العشر سنوات شاركت في إحداها مع أبناء الحي وكنا كثيرون وكان اكبرنا سنا ابن خالي يعقوب رحمه الله كانت المظاهرة صغيرة لكنها صاخبة. بالهتافات السياسية الوطنية وكانت قادمة من شارع بغداد الشارع الرئيسي بحي الشجاعية باتجاه مدرسة الهاشمية الابتدائية والزهراء الثانوية للبنات ومركز شرطة. المدينة الذي كان يضم وقتها غرفة للبريد الذي كان يعرف في تلك الأيام باسم البوسطة؛ . في تلك الأيام كانت الأجواء في القطاع ماطرة خاصة في يوم الانسحاب ذاته وقدوم قوات الطوارئ الدولية لكن المظاهرة كانت في كل خطوة تمر في الشارع تكبر أكثر حيث يلحق بها أشخاص آخرين من الشوارع الفرعية مما جعلني امسك بيد يعقوب ولاحظت بعد ذلك انه يندفع إلى الأمام للوصول إلى مقدمة المظاهرة وكان رشيقا نحيف القوام وما أن وصلت تلك المظاهرة. إلى باب مقبرة ام مروان مقابل باب مدرسة الهاشمية تقريبا حتى اشتد المطر المصاحب بهبوب الرياح فما كان من المتظاهرين الا أن هرعوا مسرعبن يحتمون من هطول الأمطار الغزيرة تحت شجرة الكينيا الكبيرة. الموجودة في ذلك المكان لعلها تظلهم بفروعها الكبيرة من قطرات المياة التي صبتها سماء ملبدة. بغيوم داكنة مسرعة قادمة من جهة البحر وعند ذلك وجدت نفسي في مواجهة رجل ملتح بجبهة عريضة في وسطها بقعة صغيرة داكنة علامة السجود وقد تبلبل شعر لحيته بمياه المطر اما انا فقد كنت وقتها غارقا بملابسي أيضا ولكن ذلك لم يمنعني من. البقاء في المظاهرة التي عادت للسير من جميع الأعمار وقد ارتفعت أصوات الهتافات أكثر فأكثر وكان صوت يعقوب أكثر وضوحا لأنه صوت رفيع شجي ينادي بكل عزيمة وإصرار بعودة الإدارة المصرية مرة أخرى إلى القطاع. ، ها أنا اتذكر أكثر موغلا في مسيرة حياتي الماضية حيث قبل عام من ذلك أي في عام 55 وكنت في الصف الرابع الابتدائي وفي مدرسة صلاح الدين الأيوبي الابتدائية ومديرها الأستاذ رباح الريس الذي كان لا تفارق عصا الخيزران القصيرة الغليظة يده أصابتني حمة شديدة على إثرها حولني الطبيب مصطفى عبد الشافي وهو شقيق الدكتور حيدر وكانت عيادته قريبا من ساحة فلسطين الان امام مبنى بلدية غزة الذي كان في الأصل مستشفى باسم تل الزهور.. حولني الدكتور مصطفى الى مستشفى الحميات وكان هو الآخر عبارة. عن مبنى قديم يقع في الغرب من مدينة غزة قريبا من البحر ومن مخيم الشاطئ الذي كان في بداية الأمر عبارة عن تجمع للاجئين على شكل خيام بيضاء و اذكر ان غرفتي في المستشفى َقد ضمت أيضا اثنين من الجنود أحدهما مصري والآخر سوداني و كانت لها نافذة كبيرة وبالقرب منها أشجار من الكينيا حيث المستشفى كان مقاما وسط غابة من الاحراش. ومن بين أشجار الكينيا كانت واحدة منها تتدلي فروعها إلى قرب النافذة فتجلب لنا الظل و الهواء البارد إلذي يخفف من الحمة التي تنتاب بين الحين والآخر أجساد ثلاثتنا المتعبة .. هكذا هي شجرة الكينيا رفيقتي من أعوام الطفولة إلى مرحلة الصبا فكم من مرة جلست تحتها وانا اذاكر دروسي في المرحلة الثانوية وكم كان سروري حين وجدتها كبيرة فارعة في جانب من فناء مدرسة العامرية الثانوية التي عملت فيها كمدرس أكثر من عشرين عاما وكان وقت ذلك الجلوس تحتها أثناء الاستراحة بين الحصص اشبه بملتقي لمدرسين عرب من مصر والسودان وتونس والعراق وفلسطين جمعتهم في ليبيا مهنة إنسانية واحدة.