سيزيف
تاريخ النشر : 2020-12-03 17:11

وقفَ سيزيفُ منهكَ القوى، والعرقُ يغسلُ جسدهُ، وخلفَ المنصةِ يجلسُ كبارُ الآلهة، يشربون الكولا. ​

خاطبه كبيرُ الآلهة بابتسامتهِ السماوية: سيزيفُ أيّها البشريُّ المغْتـّر بقّوته، ألمْ تتعبْ؟ ​

هل أعجبتكَ الصخرة؟ .​

-تعبتُ، تشققّتْ يدايَّ، أحرقني حرُّ الصيفِ، وجمّدني ثلجُ الشتاءِ، ولكنْ لنْ أركعَ … عندي بقيةٌ منْ الأملِ.​

- أيُّ أملٍ يا سيزيف! .​

- أنْ يتحررَ الإنسانُ من قيودِ الآلهةِ ، قدْ ينقضي زماني دونَ ذلك ، ولكنْ لا بد منْ زمنٍ يلدُ رجالاً يطهرون الأرضَ ، هذا الزمنُ قادمٌ لا محالةَ ، لا أدري بعدَ مائةِ عامٍ أو مائتينِ أو أكثرَ ، ولكنّه قادمٌ بلا ريبٍ. ​

- حسناً اسمعْ يا سيزيف قررتْ الآلهة أنْ ترحمكَ ، ولنْ تغضب من كلامكَ ، فالآلهة أكبرُ منْ أنْ يثيرها كلامُ صعلوكٍ مثلكَ ، سنعفيكَ منْ عقوبةِ دحرجةِ الصخرةِ ، و سننقلكَ إلى عالمٍ بعيدٍ متمدنٍ لتعيشَ فيه ، وسنرى النتيجةَ .​

نهضَ كبيرُ الآلهةِ، مدّ عصاهُ السحريةَ، انطلقَ شعاعٌ قويٌ ، أغمضَ سيزيفُ عينيه ، أحسّ بأنّه يدورُ .​

( 2 )​

فتحَ سيزيفُ عينيهِ، تأمّلَ نفسهُ وضحكَ: ما هذهِ الملابسُ الغريـبةُ التي ألبسها .​

نظرَ حولهُ، رأى على مسافةٍ قريبةٍ مدينةٌ كبيرةٌ ببوابةٍ ضخمةٍ وأبنيةٍ مرتفعةٍ .​

دخلَ المدينةَ … الجميعُ يلبسونَ مثلهُ، أو الأصحُ هو يلبسُ مثلهم.​

ركبَ سيزيفُ في الباصِ، جلستْ أمامهُ صبيةٌ جميلةٌ، ابتسمتْ الصبيةُ، ابتسمَ سيزيفُ … غمزتْ لهُ، غمزَ لها، هبّتْ صارخةً، صفعتهُ، وانهالتِ الضرباتُ عليهِ منْ كلِّ الجهاتِ .​

مضى أسبوعٌ، النقودُ تكادُ تنفدُ ، صاحبُ الفندقِ أنذرهُ بإخلاءِ الغرفةِ خلالَ يومينِ ، ماذا يفعلُ ؟ ! لمْ يجدْ عملاً حتى الآن، وأكوامٌ من قصاصاتِ الجرائدِ تعلنُ عن حاجتها لموظفينَ.​

( 3 )​

طرقَ سيزيفُ على البابِ بلطفٍ، ثمَّ دخلَ .​

وراءَ المكتبِ تجلسُ عجوزٌ متصابيةٌ، تغطي المساحيقُ الملونةُ وجهها، وبرغمِ الذهبِ الكثير الذي يطوقُ عنقها وساعديها بدا جلدها مثلَ جلدِ التمساحِ، و أقْعتْ خلفَ مكتبها كمسخٍ مشوهٍ .​

أخبرها سيزيفُ أنّهُ قرأ الإعلانَ، وأخرجَ من الحقيبةِ المنتفخةِ شهادتهُ الجامعية وشهادةَ اللغةِ الإنكليزية والحاسوبِ ، كوّمها أمامَ السيدةِ الجميلةِ التي كانتْ تتأملُ بنيتهُ القويةَ وجسدهُ الضخمَ فقالتْ له :ليسَ لدينا عملٌ، ولكنْ أنتَ بالذات لكَ عملٌ عندي … ستكونُ حارسي الشخصي ، أنتَ قويٌ جداً ، ثمَّ نظرتْ إليه باشتهاءٍ ، وأضافتْ : وربما أستخدمكَ لعملٍ آخرَ ليلاً .​

نظرَ إليها بقرفٍ ، وبصقَ في وجهها ، وخرجَ .​

دخلَ رجالُ الشرطةِ غرفةَ سيزيفَ ، وجرّوه إلى السيارة .​

وقفَ سيزيفُ ، نظرَ إلى المحققِ خلفَ مكتبهِ ، تذكّرَ الآلهةَ .​

ـ أنتَ متهمٌ بالتحرشِ بسيدةٍ محترمةٍ .​

- أنا ؟ !! ..​

أرادَ سيزيفُ أنْ يكذّبَ التهمةَ ، ولكنَّ العصي السحريةَ حطّمتْ أنفهُ .​

- لنْ أتعاملَ معَ النساءِ أبداً .​

قالَ سيزيفُ بعدَ خروجهِ من السجن .​

( 4 )​

وقفَ سيزيفُ أمامَ صاحبِ الشركةِ … رجلٌ بدينٌ يجلسُ وراءَ مكتبٍ فخمٍ ، ومعَ أنَّ باقاتِ الورودِ تزيّنُ المكانَ ، بدا الرجلُ نتناً ، وطغتْ رائحتهُ الكريهة على عطرِ الورودِ الفواحِّ .​

- ليسْ لدينا عملٌ .​

شخرَ الرجلُ البدينُ ، وتأمّلَ بنيته القوية ، وأضافَ : ولكنْ أنتَ بالذاتِ لكَ عملٌ عندي سوف ……​

- تريدُ أنْ أكونَ زعيماً للمهربين عندكَ ، أبيعُ الموتَ والسمَّ لأهلِ بلدي ، أنتَ خائنٌ ... صرخَ سيزيفٌ ، ثمَّ تقدّمَ نحو الرجلِ البدينِ ، ولكمهُ ، فحطّمَ أنفهُ .​

جرّ رجالُ الشرطةِ سيزيفَ إلى السيارةِ .​

وقفَ سيزيفُ ، نظرَ إلى المحققِ خلفَ مكتبهِ ، تذكّرَ الآلهة .​

- أنتَ متهمٌ بالتهجمِ على رجلِ أعمالٍ ممنْ يخدمونَ الوطنَ .​

- أنا ؟!.​

أرادَ سيزيف نفي التهمةَ ، لكنَّ العصي السحريةَ حطّمتْ أنفهُ .​

- لنْ أتعاملَ معَ التجارِ أبداً .​

قالَ سيزيفُ بعدَ خروجهِ من السجنِ .​

( 5 )​

وقفَ سيزيفٌ بأدبٍ أمامَ صاحبِ المكتبِ … رجلٌ أنيقٌ يجلسُ وراءَ مكتبه ، وبالرغمِ منْ كلِّ مظاهرِ النظافةِ لاحظَ سائلاً هلامياً في فوهةِ منخريهِ الواسعين .​

- ليس لدينا عملٌ .​

قالها الرجلُ النظيفُ بمكرٍ ، ثمَّ أضافَ : لكنْ أنتَ بالذات لكَ عملٌ عندي سوف……​

- ماذا ؟ !! . تريدُ أنْ أغتالَ غريمك في الانتخابات ، أيّها القذرُ ... إزهاقُ الروحِ محرمٌ ... صرخَ سيزيف ، ثمَّ تقدّمَ نحو الرجلِ الأنيقِ النظيفِ ، ولكمهُ ، فحطّمَ أنفهُ .​

جرّ رجالُ الشرطةِ سيزيفَ إلى السيارةِ مع بعضِ الركلاتِ الخفيفةِ .​

وقفَ سيزيفُ ينظرُ إلى المحققِ خلفَ مكتبه ، تذكّرَ الآلهة .​

- أنتَ متهمٌ بتهديدِ سياسيٍ نزيهٍ .​

- أنا ؟ ! .​

أرادَ سيزيفُ أنْ يتكلّمَ ، لكّن العصي السحريةَ حطّمتْ أنفهُ .​

- لن أقربَ السياسةَ أبداً .​

قالَ سيزيفُ بعد خروجهِ من السجنِ .​

( 6 )​

استيقظَ سيزيفُ من نومهِ ، وجدَ نفسهُ بثيابهِ القديمةِ على قمةِ الجبلِ ، وأمامهُ المنصة ، يجلسُ خلفها كبارُ الآلهة ، يلعبون ( الورق ) وأكياسُ البطاطا المقلية - التي ستكونُ منْ نصيبِ الفائزِ في اللعبِ - تتكدس فوقَ بعضها مثل جبل الأولمب .​

نظروا إليهِ وضحكوا ... خاطبهُ كبيُر الآلهةِ بابتسامتهِ السماويةِ : لماذا عدتَ يا سيزيفُ ؟ ماذا جرى لأنفكَ يا مسكين ، يبدو مشوهاً ؟ .​

ـ أرجوكم ، أريد أنْ أبقى هنا .​

ـ يالـ العجب العالمَ الذي كنتَ فيهِ عالمٌ متقدمٌ ويسبقنا بآلافِ السنين .​

ـ أرجوكم ، أريدُ أنْ أعودَ إلى صخرتي ، وداعاً .​

لمْ ينتظرْ سيزيفُ ليسمعَ رأي الآلهةِ ، وانحدر راكضاً إلى أسفلِ الجبلِ حيث تنتظرهُ الصخرةُ .​