فلسطين ليست قميص عثمان
تاريخ النشر : 2020-10-30 07:05

إن عاود سوق عكاظ نشاطه بذات الوظيفة المادية والأدبية التي كان عليها زمن الجاهلية واتخذ مكاناً له في حاضرنا لوجدنا أن القضية الفلسطينية أكثر بضائعه رواجاً، فليس ثمة قضية يمكن المتاجرة بها وتعود بالنفع على مدعي الوفاء لها أكثر مما تفعله القضية الفلسطينية، فمنذ نشأتها الأولى وحتى يومنا هذا كانت الأكثر تشدقاً بها من قبل القريب والبعيد ليس بهدف مداواة جراحها بقدر ما هو طمعاً في استغلال ورقتها في لعبة السياسة والحكم، فكم هي الأنظمة التي ركعت شعوبها تحت شعار التحضير لتحرير فلسطين؟، وكم من أنظمة ألقت بفساد حكمها على شماعة فلسطين؟، وكم من حاكم نظم فيها شعراً حباً وعشقاً صباحاً وجلس مساءاً يحتسي خمره مع مغتصبها، وكم من حرب اشتعلت في المنطقة من أجل فلسطين دون أن يكون لفلسطين ناقة أو جمل فيها، وعلى المستوى الداخلي كم من انتهاكات لحقوق المواطنة حدثت بشعارات وطنية، وكم هم الذين ارتدوا عباءة الوطن لينهبوا الوطن ومقدراته، الوطن المكلوم بهم وبأطماع إحتلال لا حدود لها، وحين كشف الانقسام عن عورتنا راح كل منا يقطف من الشعارات الوطنية ليواري بها سوءته، وكم قيل لنا أن القضية تمر في منعطف خطير وعلينا شد المئذر والتحلي بالصبر وكأننا على مدار العقود الطويلة السابقة كنا نسير في طريق منبسطة لا إنحناءات فيها ولا التواءات ونعيش في حياة ملؤها الرفاهية والبغددة.
ما زالت العاطفة تمسك بتلابيبنا وجعلنا منها أداة القياس الوحيدة في تقييم علاقتنا مع الدول، يكفي أن يخرج زعيم ما بكلمات رنانة تدغدغ عواطفنا حتى نصفق ونطبل له ونملأ شوارعنا بصور القائد المفدى، دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث في مقارنة أقواله بأفعاله رغم خيباتنا المتكررة ممن أوصلونا بخطبهم العصماء قاب قوسين أو أدنى من تحرير القدس لنستفيق بعدها على لطمة تدمي قلوبنا، السياسة بأدبياتها لا تعرف العاطفة فلم يسجل لنا التاريخ أن العاطفة حررت أوطاناً ولا بنت دولاً ولا عالجت مشاكل مجتمع كل ما يمكن أن تفعله أن تحرك المشاعر فينبت معها التضامن اللفظي الذي دوماً لا يرقى لمستوى الفعل، نخطيء إن إعتقدنا أن العلاقات بين الأنظمة الحاكمة حديثاً أم قديماً تحكمها المباديء والمثل والقيم أو أنها تنسج خيوطها من العاطفة، المصالح وحدها هي المعيار الدقيق للعلاقة بينها.
منذ اطلاق شعار القضية الفلسطينية هي قضية العرب المركزية قبل أن يتمدد ليصل عواصم الدول الإسلامية لم نسأل أي منهم ولم نسأل أنفسنا عن مضمون ذلك، ولم نخضع الشعار لتقييم موضوعي لنعرف محدداته بعيداً عن العاطفة التي جرفتنا معها، المهم أن الشعار بقي على حاله رغم التبدل الكبير في موقف العرب منذ تبنيهم لما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة وتحصينه باللاءات الثلاث، مروراً بمرحلة التشبث بعربة السلام حتى بعد أن انتزع الاحتلال محركها تحت مرأى ومسمع الجميع، وصولاً إلى ما وصلنا اليه اليوم الذي يغني فيه الحال عن القول، هل علينا أن نلوم العرب ونحملهم وزر ما وصلت اليه القضية الفلسطينية ونعفي أنفسنا من المسؤولية؟، هل إبتعد العرب عنا أم نحن من ابتعد عنهم؟، هل فقدنا الأمل في قدرة العرب على تغيير معادلة الصراع بما يسمح بإنهاء الاحتلال، أم أن العرب ذاتهم قد تعبوا من مشوار القضية الفلسطينية؟.
فلسطين ليست قميص عثمان بإستطاعة من هب ودب أن يستخدمها لتحقيق مآربه، وليست منبراً للمزايدة الكلامية لمن إعتادوا أن يسمعونا ضجيجاً ولا نرى دقيقاً، وعلينا أن نحكم العقل ونبتعد عن ردات الفعل الغير محسوبة التي تحركها العاطفة، وأن نبني عملنا في المرحلة القادمة على الحقائق التالية:
أولاً: أن هناك إجماع فلسطيني "فصائلي وشعبي" على رفض ما جاءت به صفقة القرن، ولا توجد قوة على ظهر البسيطة تستطيع أن تفرض علينا قبول ما نرفضه، ولدينا القدرة على إجهاض ما لا يلبي طموحنا.
ثانياً: أن الضرر الواقع على المشروع الوطني من جراء الإنقسام الفلسطيني لا يمكن السكوت عليه، ولسنا في فسحة من الوقت كي نواصل اللف والدوران في ذات الحلقة المفرغة وعلينا مغادرة الإنقسام اليوم قبل الغد.
ثالثاً: أننا بمعزل عن الأمة العربية نزداد ضعفاً في مواجهة عدو لا تتوقف أطماعه عند حدود معينة، ونحن بحاجة للعرب أكثر من حاجتهم الينا، وفي الوقت ذاته لا يمكن العرب الإبتعاد عن قوى الجذب الكامنة في القضية الفلسطينية بأبعادها العقائدية والانسانية والأخلاقية، ومن الحكمة أن نرمم علاقتنا بمحيطنا العربي دون إبطاء.
رابعاً: أن نذهب بالصراع مع الاحتلال إلى المربعات التي نحقق فيها إنتصاراً عليه وألا نسمح له أن يجرنا إلى المربع الذي يتفوق فيه علينا.