(نصوص قصصية.) . .شارع الجيش
تاريخ النشر : 2020-10-20 21:10

في مثل هذا الشهر أكتوبر عام 70 من القرن الماضي عدت إلى القاهرة التي أقمت بها اربع سنوات بقصد الدراسية الجامعية .. عدت من عمان كما ذهبت إليها في طائرة انطنوف صغيرة روسية الصنع وكانت محل خوفي وخوف الركاب أيضا فكلهم كانت تظهر على وجوههم علامات القلق خاصة عندما انطلق صوت القبطان من كابينة القيادة ببعض التعليمات فحوادث طراز هذا النوع من الطاىرات. الروسية كثيرة.
.. عدت إلى القاهرة حيث اشتقت للمشي في المساء بشارع أحمد فؤاد والشوارع الأخرى فمنذ مدة لم اتناول عصير الجوافة ولم أقف أمام شباك التذاكر لشراء تذكرة سينما روفلي او وميامي وكذلك المرور أمام مقهى الأمريكان والأمريكين هناك قريبا من المقهى رأيت الممثل الكبير شكري سرحان ولكن هذه المرة كنت احمل جوازسفر أردني مؤقت جديد فئة السنة الواحدة بدلا من وثيقة السفر المصرية في انتظار فرصة التعاقد من عمان في صيف العام القادم لكن السمسار حسنين ظل يعرفني كفلسطيني من غزة ويقول لي دائما كلما التقيته وسؤالي له عن شقة أو غرفة مفروشة للايجار : الفلسطينيون بتوع غزة اجدع الناس وحين وجدته في مقهى العم بيومي بشارع الجيش لم يصدق انني أقف الان أمامه فهو يعرف أنني سافرت نهائيا بعد تخرجي من الجامعة إلى الأردن.. . شارع الجيش اول مكان سكنت فيه بالقاهرة انا وشاكر زميلي في كلية دار العلوم.. . استأجرت غرفة في شقة مفروشة عند السيدة زينب بخمس جنيهات في الشهر وفي عمارة 51 الدور الثالث.. رأيت المصعد الكهربائى الاسانسير لأول مرة.. في أول الأمر كنت أتردد الصعود فيه وفي بعض المرات كنت انتظر قادم لار كب برفقته ... ظللت على هذا الحال مدة طويلة... في ذات يوم وانا عائد من الكلية رأيت سيدة من سكان العمارة معلقة في المصعد بسبب انقطاع التيار الكهربائي.. رأيتها من خلال بابه الحديدي ألمشبك تنظر إلى الأسفل .. كانت السيدة مسنة مكتنزة تكشف عن ذراعين بيضاوين كالثلج َوتنادي بصوت عال على البواب فرغلي... حينما علم السمسار حسنين بأني عدت من عمان و ابحث عن غرفة مفروشة للايجار أ قال لي :أين تريد الغرفة يا افندم " فقلت له على الفور وبدون تردد : في شارع الجيش... لقد أحببت هذا الشارع القريب من سوق الموسكي وخان الخليلي و ميدان العتبة الخضراء وسط القاهرة حيث يوجد في ناحية من الميدان مطعم سحس الذي يقدم للزبائن طبق الكشري الشعبي الشهير وكذلك غير بعيد عنه يوجد مطعم و مقهى البرلمان الذي يقال ان الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة كان من رواده .. في شارع الجيش رأيت الرىيس عبد الناصر لأول مرة في حياتي... وقفت على شرفتي في الشقة انا وشاكر وخالي ابو صقر وكان في زيارتي قادما من مشروع السد العالي بأسوان وحين اقترب موكبه من العمارة وكان برفقته الرئيس العراقي عبد السلام عارف أخذنا نصفق ثلاثتنا بحرارة.. . توالت المواكب مع الرؤساء التي تمر من شارع الجيش وقد رأيت منهم تيتو وسوكارنو وابو مدين وفي كل مرة كنت أرى عبد الناصر واقفا بجانب ضيفه وهو يلوح بيده للجماهير المصطفة على جانبي الطريق كان يغمرني طوال اليوم شعور بالبهجة والسعادة غير أن أكثر ما كان يضايقني هو عدم وقوف السيدة زينب على الشرفة لتحية الريس .. في كل المرات التي كان يمر بها موكب الريس في شارع الجيش كانت السيدة زينب لا تبارح مكانها بخلاف سيدات العمارة .. تبقى جالسة بهيئتها المكتنرة وذ راعيها العاريين في مقعدها الكبير المريح في ركن بالصالة المزدانة بصور لرجال يرتدون الطرابيش... حالة استفزازية للمشاعر تكررها دائما " ...
.. قالت لي ذات مرة بعد أن أشعلت سبجارتها وأخذت تمتص أحشاءها بعنف : الريس ناصر يا محمد بتاع كلام ثم تابعت كلامها قائلة هذه صورة زوجي المرحوم من عائلة الشربيني.. عائلة الشربيني عائلة اقطاعية معروفة.. الله يرحم الملك فاروق ملك مصر والسودان .. لقد سمعت ذلك وكانت تنتظر أن ترى على وجهي علامات الغضب فهي تعرف أنني من المحبين لعبد الناصر وحينما اعلم بمروره في الشارع اهرع إلى الشرفة لرؤيته .. ولكن في الحقيقة أن ماحدث لي بالفعل هو عكس ما كانت تنتظره وتتوقعه ...حقيقة لقد انتابني على الفور شعور بالرضا والارتياح ليس ترحما على الملك فاروق الذي ينتمي لأصول البانية بل هو حبا أكثر لعبد الناصر الذي أنهى بصو رة نهائية في مصر حكم الاقطاع والطرابيش . .
.