ما بعد السلطة الفلسطينية
تاريخ النشر : 2020-09-28 17:22

مركز الزيتونة

فتح اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في 3 أيلول /سبتمبر 2020 الفرصة أمام السير قدماً باتجاه إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وتوحيد الصف الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.

غير أن المراهنة على إصلاح السلطة الفلسطينية أو اعتبارها قاطرة للتغيير الوطني لم يعد أمراً ممكناً، إن الآمال في بناء شرعية فلسطينية حقيقية وبناء مؤسسات تشريعية ورئاسية وتنفيذية شفافة، ناتجة عن انتخابات حرة تحت الاحتلال هي أحلام بعيدة المنال؛ في ظلّ تغوّل الاحتلال والحقائق التي أنشأها على الأرض، وإفشاله المؤكد والمبكر لقيام سلطة وطنية تواجهه وتتحداه.

ترتيب البيت الفلسطيني:

إن إعادة ترتيب البيت الفلسطيني ترتبط أساساً بثلاثة محددات:

– وجود برنامج وطني مبني على الثوابت.

– القدرة على صناعة قرار وطني بعيداً عن الاحتلال وعن الضغوط الخارجية.

– وجود مظلة رسمية جامعة للكل الفلسطيني في الداخل والخارج، غير خاضعة للاحتلال واشتراطاته (منظمة التحرير الفلسطينية).

وبعد 27 عاماً على اتفاق أوسلو، وصل مشروع السلطة الفلسطينية إلى طريق مسدود، فليس ثمة أفق لدولة فلسطينية حقيقية. والسلطة تواجه خيار تكريس دورها كسلطة في خدمة الاحتلال تنوب عنه في مهامه القذرة؛ أو خيار حلَّ نفسها وتحميل الاحتلال مسؤولياته؛ أو خيار فصل الجانب السياسي عن الخدماتي والمدني في دورها فتُبقي على الجانب المدني، وتعيد السياسي إلى منظمة التحرير الفلسطينية، كما تلغي دورها الأمني المتعاون مع الاحتلال. وهي في كل الأحوال لم تعد تحمل مشروعاً وطنياً يمكن البناء عليه، بعد أن أصبحت في الضفة الغربية أداة مهترئة بيد العدو، فاشلة سياسياً ومنهارة اقتصادياً، وموظفة أمنياً لإسكات الشعب الفلسطيني ومنع انتفاضته وانفجاره في وجه العدو.

وأياً يكن الاختيار من بين الاحتمالات الثلاثة، فالسلطة الفلسطينية تجاوزها التاريخ وتجاوزتها الأحداث كمدخل لحلّ الدولتين أو للتحرير المرحلي لفلسطين، وتجاوزها الصهاينة والأمريكان، كما يجري تجاوزها من المُطبِّعين العرب. ولم يعد أمام الفلسطينيين، وخصوصاً القيادة الرسمية لمنظمة التحرير والسلطة نفسها وحركة فتح، من خيار إلا البحث عن "قاطرة" أو رافعة أخرى لمشروعهم الوطني ومشروعهم في التحرير؛ وإلا فسيتجاوزهم التاريخ أيضاً.

سلطة بلا أفق:

وعلى ذلك، فليس ثمة أفق لانتخابات شفافة وشاملة للمجلس التشريعي، بحيث تشمل الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة.

وليس ثمة أفق لحكومة وحدة وطنية تشارك فيها قوى المقاومة وتمارس عملها في الضفة الغربية.

وليس ثمة أفق بالنسبة لحماس لتشكيل حكومة أو المشاركة فيها، لو فرضنا جدلاً أنها ستفوز في الانتخابات.

وليس ثمة أفق لحماس نفسها أن تجمع بين السلطة والمقاومة في الضفة الغربية.

وليس ثمة أفق لقوى المقاومة أن ترفع الحصار عن قطاع غزة حتى لو تشكلت حكومة وطنية بتوافق فتحاوي حمساوي.

إن ما نتحدث عن استبعاده هو المراهنة على البناء المؤسسي التمثيلي الوطني الفلسطيني تحت الاحتلال؛ أما البرامج المشتركة بين الفصائل، وتنسيق أشكال المقاومة المختلفة في مواجهة الاحتلال، فيجب تفعيلها وتعزيزها.

فتح أمام مفترق طرق:

نرجو أن يمثل الحراك الفتحاوي الذي شهدناه هذا الصيف نحو تفعيل الوحدة الوطنية ومواجهة صفقة ترامب ومشاريع الضم خطوة نحو تغيير نوعي في الساحة الفلسطينية. فحركة فتح أمام مفترق تاريخي فإما مراجعة حقيقية تخرجها من مسار أوسلو والتسوية والسلطة الخادمة للاحتلال، وتعيدها لمربع المقاومة، وتدفعها لترتيب حقيقي للبيت الفلسطيني؛ وإما مخاطر الاضمحلال والزوال كما زالت أوسلو، وكما تهاوى مشروع التسوية.

آن لحركة فتح أن تعترف بالمسار الفاشل لتجربة أوسلو، وبحالة "التِّيه" التي قادت الشعب الفلسطيني إليها. آن لفتح ولقيادة السلطة أن تأمر كوادرها وضباطها في الأجهزة الأمنية بالكف عن ملاحقة كوادر المقاومة وقمع التيارات المخالفة لمسار أوسلو. فليس في السلطة ثمة ما يستحق التضحية ولا المعاناة، إذ إن نهاية هذا المسار واضحة… فلا دولة و"لا من يحزنون".

المقاومة "السلمية":

ألزمت اتفاقات أوسلو السلطة الفلسطينية باستخدام الوسائل السلمية فقط، لكنها لم تلزم الاحتلال بذلك. غير أن تبني المقاومة "السلمية" كأساس لانتزاع الحقوق الفلسطينية، لا يثير إلا سخرية الاحتلال، وربما بعض الشفقة من المجتمع الدولي، الذي سيترك الاحتلال يتابع بطشه وتهويده للأرض والإنسان.

فما الجديد الذي ستقدمه المقاومة "السلمية" بعد عشرات الأعوام من الفشل المتواصل لهكذا أساليب. وإذا كان ثمة فائدة لهذه المقاومة فلتكن أداة من أدوات الحد الأدنى، وليس جوهر الاستراتيجية النضالية الجهادية الفلسطينية التي تتطلب اللغة التي يفهمها الاحتلال والمجتمع الدولي.. وهي لغة القوة.

كما أن مواصلة النضال السلمي على المستوى الدولي وتبني رؤية الانتقال من "سلطة" تحت الاحتلال إلى "دولة" تحت الاحتلال، لن يُحدث فارقاً نوعياً يُغيّر مجرى الأحداث؛ فقد سبق للفلسطينيين أن أعلنوا دولتهم المستقلة في 1/10/1948، كما أعلنوا الاستقلال مرة أخرى في 15/11/1988؛ وجرى تجاوزهما في كلتا الحالتين.  وحتى الآن تعترف نحو 135 دولة بفلسطين كدولة محتلة، دون أن يمنع ذلك يهودياً صهيونياً واحداً من الاستيطان في أراضي هذه "الدولة" التي يجري قضمها وهضمها بشكل منهجي نشط.

القرار الفلسطيني المستقل:

أصبح الجدل في أن رام الله تمثل مركز صناعة قرار وطني مستقل ضرباً من العناد والمماحكة. فإذا كان القرار بطبيعته هو تعبير عن الإرادة الحرة للشعب، فإن الاحتلال هو في جوهره تحطيم وتشويه لهذه الإرادة.

وإذا كان الاحتلال قادراً على التحكّم بمدخلات السلطة ومخرجاتها وتعطيلها وإفشالها، فلا يمكن الحديث عن صناعة قرار وطني. إنّ سلطةً قُزمت لخدمة الاحتلال لا يمكن المراهنة عليها لتنفيذ أجندات وطنية كبيرة. كما أن سلطة يسعى أصحابها لتجاوز الخطوط الحمراء للاحتلال سيجري تعطيلها. وفي كلتا الحالتين ليس ثمة أفق لبيئة عمل سياسي حر يصنع قراراً مستقلاً.

وما هو أهم أن القرار الفلسطيني ليس مرهوناً بالضفة الغربية أو بالداخل الفلسطيني، وإنما هو قرار يشترك فيه الداخل والخارج، حيث يعيش ما يزيد عن نصف الشعب الفلسطيني في الخارج.

منذ أكثر من عشر سنوات تحدثنا أن المدخل الأنسب لإصلاح البيت الفلسطيني هو إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وأن يكون القرار المؤسسي الفلسطيني بعيداً عن سلطة الاحتلال. أما وقد فقدت السلطة الفلسطينية كل مبررات ممارسة دور وطني فعال، وفقدت رام الله قدرتها تماماً على توفير مظلة لممارسة مؤسسية حرة (المجلس التشريعي للسلطة، والمجلس الوطني والمركزي للمنظمة) بتمثيل فلسطيني شامل وشفاف؛ فإن الكرة قد رجعت إما للخارج أو لقطاع غزة للقيام بمثل هذا الترتيب.

استئناف عمل منظمة التحرير:

وبالتالي، فليس أمام السلطة سوى إعادة تعريفها لتكون إحدى أدوات النضال في مشروع وطني أوسع منها، يحدد هو أدوارها، ولا تفرض هي معالمه ولا مساراته. وعلى منظمة التحرير أن تأخذ زمام المبادرة وفق المحددات التي أشرنا إليها.

ليس من المتوقع أن يكون استئناف منظمة التحرير ومؤسساتها عملها في الخارج أمراً سهلاً؛ فالكثير من البلدان تنأى بنفسها عن احتضان أي من مؤسسات هذه المنظمة أو اجتماعات مجالسها التمثيلية، والبلدان الرئيسية والفاعلة المعنية بالملف الفلسطيني غارقة في مسار التسوية والتطبيع، ومعظمها (إن لم يكن كلها) لديه فيتو ضد مشاركة حماس وقوى المقاومة وتيارات "الإسلام السياسي" بما يؤدي إلى إسهام فعال في القيادة وصناعة القرار الفلسطيني، أو خروج منظمة التحرير من مربع التسوية إلى مربع المقاومة حتى لو كان ذلك تعبيراً عن الإرادة الحرة للشعب الفلسطيني.

ومع ذلك، فإن انتزاع الإرادة الحرة للشعب الفلسطيني في اختيار قيادته وصناعة قراره أمر يستحق العناء، كما أن تصويب المسار السياسي للمنظمة وتفعيل مؤسساتها لا ينبغي أن يأخذ إذناً من أحد. ويجب البحث عن صيغ إبداعية تكفل استمرار البيئة المؤسسية للعمل واستمرار المقاومة. وهي صيغ ليس من الضروري أن تكون ذات طبيعة بيروقراطية مثقلة بالتكاليف والشكليات الرسمية؛ وإنما ذات طبيعة دينامية عالية مرتبطة بطبائع الثورات وحركات التحرير.

وللأمانة، فإن كاتب هذه السطور ليس متفائلاً بسلوك قيادة المنظمة، لكن الواجب يقتضي الدفع بأي جهود باتجاه الخروج من المأزق الفلسطيني ومواجهة الاحتلال.