السلام الفلسطيني الإسرائيلي-المسار والمآل( الجزء الأول)
تاريخ النشر : 2020-09-22 15:32

سادت أجواء من التفاؤل في الوطن العربي والشرق الأوسط والعالم أجمع بعد توقيع اتفاق أوسلو للسلام "إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي" هو اتفاق سلام وقعته إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الأمريكية واشنطن بـــ1993.09.13 بحضور الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون وسمي الاتفاق نسبة إلى أوسلو العاصمةالنرويجية وشكل إعلان المبادئ والرسائل المتبادلة نقطة فارقة في شكل العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل التزمت بموجبها الأطراف بجملة من الالتزامات المتبادلة.

وينص إعلان المبادئ على إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي فلسطينية أصبحت تعرف فيما بعد بالسلطة الوطنية الفلسطينية ومجلس تشريعي منتخب للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، لفترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات، للوصول إلى تسوية دائمة بناء على قراري الأمم المتحدة 242 و338، بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.
كما أكدت الاتفاقية، على أن آلية المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية، بما فيها "القدس، اللاجئون، المستوطنات، المياه، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران" آخرين، وتبع هذه الاتفاقية المزيد من الاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات مثل اتفاق غزة اريحا وبروتوكول باريس الاقتصادي الذي تم ضمهم إلى معاهدة تالية سميت بأسلو2، تشكل هذه الخطوات خارطة طريق لقضايا "الحل النهائي" المقرر مناقشتها بعد انتهاء الفترة الانتقالية المحددة بحسب بنود اتفاق أوسلو بمدة خمس سنوات.

بالرغم من ذلك، لقى هذا الاتفاق معارضة شديدة من داخل أوساط اليمين الإسرائيلي، الذين يرفضون توجه السلام بالمطلق ويعتبرونه مجرد "أوهام ومضيعة للوقت"، تبعاً لذلك انطلقت حملات تحريضية على الحكومة الإسرائيلية ورئيسها آنذاك اسحق رابين "أدت إلى إقصائه نهائيا عن المشهد السياسي الإسرائيلي بعد واقعه اغتياله من قبل متطرف صهيوني في سنة 1995،التي ألقت بظلالها على مستقبل معسكر أنصار السلام الإسرائيلي، وكما انعكست سلباً على مسار السلام برمته.

من هنا، انطلق مسلسل صعود اليمين المتطرف للمشهد السياسي داخل إسرائيل والسيطرة على تفاصيله الذي وظف كل أدواته المتاحة لتنفيذ أهدافه العنصرية، من ضمنها شن حملات دعائية واعلامية بهدف نسف عملية السلام والتشكيك في جدواها مع الفلسطينيين، والتي تصاعدت وتيرتها بشكل ملحوظ قبل انتخابات البرلمان الاسرائيلي "الكنيسيت" في سنة 1996، مستندين بذلك على بعض الأحداث الميدانية من أجل إقناع الناخب الإسرائيلي بالتصويت لصالح حزب الليكود اليميني بزعامة المتطرف "بنيامين نتنياهو" في هذه الانتخابات، والتي أسفرت عن فوز هذا الأخير وحزبه الليكود بأغلبية أصوات الناخبين، وتكليفه بتشكيل حكومة الاحتلال.

فقد شكل هذا المستجد ضربة قاتلة لفرص السلام في المنطقة، وفرض أمر واقع عنوانه الرئيسي "قلب معادلة السلام راسا على عقب" مستغلين بذلك تراجع نفوذ معسكر أنصار السلام بشكل ملحوظ داخل إسرائيل خصوصا على مستوى النخبة التي لم يعد يسمع لها صوتا في وقتنا الحالي، لتفيذ مشاريعهم العنصرية.

وهذا ما سعت إليه حكومة نتنياهو منذ اليوم لتوليها مهامها، حيث سخرت كل امكانياتها المتاحة لفرض أمر واقع يتجاوز الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، ولم تتدخر أي جهد في سبيل تحقيق ذلك، متجاهلة المرجعيات الدولية ذات العلاقة التي تعكس إرادة المنتظم الدولي المتمثلة في إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وإحلال الدائم والشامل في المنطقة.
بالموازة مع ذلك، انطلق مشروع استيطاني ضخم بهدف فرض أمر واقع على الأرض يتعلق بتهويد مدينة القدس المحتلة وضم أجزاء كبيرة من أراضي الضفة الغربية لصالح البؤر الاستيطانية الجديدة، وهذا ما يعكس سلوك حكومة إسرائيل المتطرفة التي تسعى إلى تقويض مساعي المبعوثين الدوليين الحثيثة من أجل إزالة العقبات التي تواجه العملية السلمية وإحداث تقدم ملموس يساهم في الوصول لقضايا الحل النهائي بأفضل الأحوال.

لم تتوقف محاولات حكومة نتنياهو المتطرفة عند هذا الحد، بل سعت إلى تصعيد الأوضاع بشكل غير مسبوق بعد إصدار بنيامين نتنياهو أوامره للجهات المختصة من أجل مواصلة أشغال حفر النفق الغربي أسفل المسجد الأقصى المبارك في 1996.09.25، الأمر الذي فجر هبّة شعبية فلسطينية أطلق عليها "هبّة النفق" التي اندلعت احتجاجا على ذلك. وأثارت غضب أبناء الشعب الفلسطيني الذين اصطفوا في خندق واحد لمواجهة هذا القرار التهويدي الخطير، حيث انطلقت مواجهات عنيفة بين الشبان الفلسطينيين وقوات الاحتلال شملت القدس المحتلة والضفة الغربية وقطاع غزة، وامتدت من شمال فلسطين إلى جنوبها.

ونظرا، لخطورة الموقف ظلت القيادة الفلسطينية ممثله بالرئيس "ياسر عرفات" تراقب تطور الأوضاع على الأرض عن كثب، الذي أجرى اتصالات عديدة بملوك ورؤساء الدول وناشد المجتمع الدولي للتدخل العاجل من أجل احتواء الموقف ووقف المجازر التي تعرض لها المدنيين الفلسطينيين العزل.

ووعيا من القيادة الفلسطينية بحجم المؤامرة التي تستهدف المشروع الوطني الفلسطيني القائم على نهج السلام كخيار استراتيجي لنيل حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، دعمت المساعي الحثيثة التي انطلقت من أجل وقف المجازر والعودة إلى مربع عميلة السلام. وبعد ضغوطات هائلة نحجت تدخلات رؤساء الدول وجهود الوسطاء الدوليين في إقناع حكومة الاحتلال بوقف مجازرها تجاه الشعب الفلسطيني وإزالة أسباب التوتر وعودة الاستقرار والهدوء التام للأوضاع لكي يتمكن الطرفين من العودة إلى ملف المفاوضات بعد أن توقف نتيجة هذه التطورات.

على إثر ذلك استأنفت مساعي الوسطاء الدوليين من أجل عودة الأطراف إلى طاولة المفاوضات على أمل إحداث انفراجه في عملية السلام تساهم في مد جسور الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبناء على ذلك جرت جولات مكوكية من المفاوضات وانعقدت لقاءات عديدة بين الجانين لبحث القضايا العالقة وحل الاشكالات الناتجة عنها وتهيئة الظروف المناسبة للوصول لقضايا الحل النهائي "ملفات الخلاف الرئيسية"التي تعتبر بمثابة خطوط حمراء وقضية حياة أو موت بالنسبة للشعب الفلسطيني وقيادته.

ظل الوضع على هذا الحال لغاية انعقاد جولة المفاوضات الحاسمة في منتجع كامب ديفيد الأمريكي في سبتمبر من العام 2000 لمناقشة قضايا الوضع النهائي، برعاية الرئيس الأمريكي آنذاك "بيل كلينتون" باعتباره راعي المفاوضات الرئيسي وبصفته وسيط بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وبمشاركة الوفد الفلسطيني برئاسة الرئيس الفلسطيني"ياسر عرفات"، ووفد الاحتلال الإسرائيلي برئاسة"ايهود باراك" رئيس حكومة الاحتلال آنذاك.

محطة مصيرية تخضع لحسابات غاية في التعقيد وتمثل مسألة حياة أو موت بالنسبة للوفد الفلسطيني، حيث يتوقف عليها مصير شعب يرنح تحت وطأة أخر احتلال عنصري في العالم أجمع، تبعاً لذلك عُقدت اجتماعات مكثفة بين الوفدين داخل القاعات المغلقة برعاية الرئيس كلينتون شخصيا الذي فرض السرية التامة عليها، ومنع إدلاء أي تصريحات لوسائل الاعلام ووكالات الأنباء الصحفية.

كما طرحت على الطاولة جل الموضوعات الرئيسية على الطاولة التي شهدت ناقشات عميقة استمرت لساعات طويلة على مدار اليوم،عرفت شد وجذب ومناورات من الطرفين، من أجل الوصول لحلول نهائية لجل القضايا الخلافية العالقة، والخروج باتفاق ينال رضى الأطراف ويحظى بقبول الشعبين ويؤشر لبداية مرحلة جديدة من التعايش بينهما.

في هذه الأثناء ساد الصمت داخل القاعات المغلقة وحظر على أي جهة إدلاء تصريحات صحفية حول طبيعة ما يدور داخلها، وبعد ترقب شديد أتت الرياح عكس ما تشتهي السفن، بعد أن خرجت الوفود إلى العلن معلنين بذلك إلى العالم أجمع عن انتهاء جولة المفاوضات التي استمرت ما يقارب اثنى عشر يوما دون أن تسفر عن أي نتائج تلبى طموحات الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقبلية استنادا لقرارات الشرعية الدولية في هذا الشأن، ويضع حدًا لمعاناة الفلسطينيين المستمرة منذ سنين طويلة.

ويرجع السبب في ذلك بحسب مصادر موثوقة من داخل الوفد الفلسطيني إلى تعنت الوفد الإسرائيلي ، فضلا عن انحياز الوسيط الأمريكي لصالح هذا الأخير، وتعمده خلق أجواء مشحونة بالتوتر داخل منتجع كامب ديفيد أثناء فترة المباحثات، إضافة إلى قيام الرئيس الأمريكي بفرض شروط تمس جوهر الثوابت الفلسطينية خاصة "ملف القدس"، وما يمثل من رمزية لدى الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية، وهذا ما يتعارض مع صفته كراعي رئيسي لعملية السلام، ويفسر انحيازه المطلق للجانب الإسرائيلي، ويعكس حجم الضغوطات الهائلة التي تعرض لها الوفد الفلسطيني بقيادة الرئيس عرفات.

في هذا الصدد، ننوه إلى نقطة أضعفت من دور الوسيط الأمريكي واستفاد منها الجانب الإسرائيلي ووظفها لصالحه، وهي المرتبطة بتزامن موعد جولة مفاوضات الحل النهائي مع موعد انتهاء الولاية الثانية للرئيس"بيل كلينتون"، الذي كان خارجا للتو من تأثير فضيحة جنسية بطلتها سكرتيرته الخاصة "مونيكا لونيسكي" كادت تعصف بمستقبله السياسي وتطيح به من موقعه الرئاسي.

وعلى إثر ذلك غادرت الوفود المشاركة منتجع كامب ديفيد وحصل الذي حصل بعد ذلك من أحداث وتطورات وضعت المنطقة كاملة على صفيح ساخن، أبزرها زيارة "ارئيل شارون" لمدينة القدس المحتلة ودخوله المسجد الأقصى تحت حراسة مشددة، في استفزاز صارخ لمشاعر المسلمين جميعا، ومتعمدا إشعال فتيل الغضب لدى عامة الشعب الفلسطيني كانت كفيلة في اندلاع شرارة انتفاضة الأقصى.

هذا السلوك الاستفزازي كان كفيلا في إثارة غضب المصلين السلميين داخل باحات المسجد الأقصى المبارك، مما أدى إلى استشهاد العشرات وإصابة المئات منهم داخل باحات المسجد الأقصى، الأمر الذي فجر موجه غضب عارمة داخل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينيةّ في الوطن والشتات، كما خرجت تظاهرات عارمة في ميادين المدن والعواصم العربية والعالمية للتنديد بهذه الاعتداءات الغاشمة، فضلا عن صدور بيانات شجب واستنكار لهذه الزيارة العنصرية من قبل ملوك ورؤساء دول كثيرة، فضلا عن تنديد منظمات دولية وأحزاب سياسية وفعاليات مجتمعية على مستوى العالم.
يتبع....