نجيب محفوظ: المتأمل الباسم
تاريخ النشر : 2020-09-13 20:13

وهكذا، وبعد أن ابيض الشعر أكثره، لا المفرق، صرنا أقرب للصمت والتأمل..فصرنا نتذكر أولئك الصامتين بحكمة..فما الذي سنقوله اليوم غير مواصلة الإصغاء..ترى ماذا كان يقول الروائي الكبير في صيف عام 1989؟ وترى ما الذي نود قوله في "الصيفية القصيرة" التي يبدو ستكون ملتهبة كآخر آب اللهاب، ووأول أيلول!

ليت جيرته طالت قليلا..

وليتنا تحدثنا ولو قليلا..

كان ينظر إلى هذا الأمام، فرحت أنظر إلى ما ينظر إليه..

-       أما زال في العمر تأملات؟

-       كأنني أبدأ من جديد!

حوار افتراضي، لم يحدث، توقعته بالنسبة لكاتب كبير سمته التواضع والإصغاء لعمق الكون والناس والدنيا.

ما الذي يخطر ببال من يرى صورة نجيب محفوظ؟ صورة فوتوجرافية أو رسمة بورتريه..أو  مقطع فيلم وثائقي..! صغيرا كنت أرى الحكمة في رسمه..وكان يغريني لإطالة تأمل الصورة.. وكأنه كان يدفعني برقة وحنا كي أقرأ كلماته..قصصه ورواياته..ربما أعود لذلك في مقال خاص.

فليست حكاياته للسرد، كان وكان، ولا للتسلية والمتعة، بل هي –وقد نبعت من طول تأمل وفلسفة إنسانية جادة تجاه الحياة- حكايات تأمل رصدت حياة البشر، وأفراد رواياته، نحن البشر، وما القاهريون إلا رمز لنا، رصدا إنسانيا أرانا كيف نمونا من بذرة حتى شخنا، وكيف أورقت حياتنا وأثمرت من العواطف والأفكار، من كل التناقضات، ما بين الخير والشرّ، وكانت عظمته أنه رغم انتصاره للخير لم يقس على النفوس الشريرة أو شرور النفوس، ولم يدفعنا لنحكم حكما مطلقا، بل جعلنا نعيش الشخصيات، لنكتشف أننا مزيج من الخير والشرّ لأننا بشر، حتى نكون أكثر تواضعا وإنسانية..

فكيف إذن لا يكون وجهه وجها آخر لحكاياته-رواياته- أفكاره، ورؤاه!

وجه حقيقي؛ كنا جيرانه الفتيان في أول الشباب.. وكان جارنا الكبير ثمانيني بقلب طفل..

كنا نمرّ في شارع النيل في العجوزة، مشيا متنزهين على كورنيش النيل أو مضطرين للسير بسبب الزحمة، أو راكبين، وللساكن طريقه التي يألفها ويحبها، فالطريق تصبح جزءا من البيت لا منفصلة عنه.

سنعتاد عناصر الطريق من نيل وعمارات وفنادق ومراكز ومطاعم ومسجد..وسألحظ يوما وأنا مسرع ذلك المحدّق في عمق الدنيا، فأعرفه فورا، فأسعد كزائر حين أرى الرجل الشهير الذي حاز على جائزة نوبل قبل عام..

سأصرخ كمن صرخ قبلي: وجدتها! إننا إذن في قاهرة نجيب محفوظ..

اكتشف أرخميدس ما اكتشفه من مواد وعناصر... وأنا اكتشفته: اكتشفت مكان إقامته..

كأنه الحبيب..بسرعة يأسرني الإنسان فيه، الذي تشعر به كأنه حالة وحده، صمته وإطراقه نحو الأمام، ليس هو الصامت فقط، بل كل شيء فيه صامت، جسده والكلام...لكنه ليس صمتا على أية حال، بل كلام الصمت الكبير والكثير.

كان ذلك عام 1989..لقد أقمنا في شارع دسوق، المتفرع عن شارع النيل، ولما كنا طلبة وافدين، فقد كنا نستسهل تناول الطعام في كافتيريا نعمة، وكانت أكلتي المفضلة المكرونة بالبشمل..

سأقرأ اسم نجيب محفوظ على الشارع مذيلا بشارع كذا سابقا..سأعتاد مشاهدته جالسا في المقهى الأرضي لفندق في وسط شارع النيل أظنه جراند..جهة الزمالك.

سأعلم في يوم أننا جيران كاتبنا الكبير، حيث تلاصق العمارة التي يقيم فيها عمارة الكافتيريا...وهنا يقيم، وأن التسمية إذن لم تأت من فراغ.

هو نجيب محفوظ الذي لم تزهد مطبوعة بنشر صوره، وهي على كثرتها وتنوعها تأسر ناظرها، فيجد الرائي نفسه مدفوعا دوما إلى العمق..عمق ينشد عمقا، تلك كانت صوره البعيدة القادمة إلينا مع عالمه الروائي الفريد..

بعد أيام مضيت واقتنيت عددا من رواياته، ورحت أقرأها، أكتشفها عن قرب وأنا الذي قرأ بعض ما تيسر له من رواياته وأفلام اقتبست من الروايات..

رحت أكتشف القاهرة، أو أحاول قراءتها على ضوء عالم الروايات التي تجعل القاهرة مكانها وفضاءها..أقرأ النص وأرى لوحات الحياة القاهرية، وأقارن بما أرى الآن، فأرى في النص ما لا أرى هنا..

لعله الزمان..

لعله المكان..

روايات من الخمسينيات حتى الثمانينيات..الجديدة غير القديمة..

كلما اقتربنا من الجديدة اقتربنا من القاهرة الآن..

قراءة في الصباح والمساء ورؤية الكاتب المصغي لروح العناصر في ساعات ما بعد العصر.

كلما نظرت تجاهه تركز نظري على وجهه..فأقول لنفسي شابا صغيرا، ليست الرؤية رؤية عينية بصرية، بل هناك رؤية قلبية..!

فالذي يقف عند حدود البصر المادي لهذا الإنسان لا يكون بالفعل قد شاهد الكاتب........

مع الأيام والأسابيع اعتدت على تدريب نفسي لقراءة سحنة الرجل، لعلي أصل العالم الداخلي له..

صرت منجذبا نحو ذلك الوجه مشدودا بما أقرأ وأشاهد من روايات وأفلام سينما..وعالم من البشر بميولهم واعتقاداتهم ومصالحهم ومشاعرهم..بأهوائهم وخيرهم وشرّهم وخرافاتهم وطموحاتهم..بحياتهم من الداخل لا من السطح الخارجي التمثيلي. وبالنسبة لي صار وجهه وجوها كثيرة..وعالم من البشر..

وفي يوم تجرأت وجلست في المقهى الخارجي للفندق القريب من مكان إقامة نجيب محفوظ، كنا طالبين من فلسطين.

كان نجيب محفوظ مطرقا ناظرا إلى أمامه..كانت فقط بضع أمتار تفصلنا عن الكاتب الذي كان يختار مكان محددا لا يغّيره، وهو إلى جانب مدخل اليمين للداخل..هو إذن هذا العظيم أمامي..لا أصدّق ذلك!

كان وجهه دقيقا كما يلائم ثمانيني، أو لعله أقل قليلا..

كأنه منحوت، وقد زاد من "تمثاليته" تركيز نظرته بدون أية حركة تصدر عنه، سوى في حركة الروح، التي نشعر بها ولا نراها..

هو ينظر إلى هذا الأمام، فرحت أنظر إلى ما ينظر إليه..

لم يكن نهر النيل ليرى من بعد، فقط الكورنيش والأشجار والسيارات والشارع والسماء..

ترى هل ينظر إلى ما نرى، أم هو ينظر إلى ما نرى وما لا نرى!

جاء النادل فسكب لشيخنا فنجان قهوة ومضى..فوددت أكون النادل؟ لكن كيف سأكون نادلا عاديا وأنا أقدّم القهوة لإنسان غير عادي!

قلت لصاحبي:

-       لنسّلم على الأستاذ نجيب محفوظ!

-       ................................

-       لنسلّم عليه!

-       ليس من المفروض أن نعكّر مزاجه..دعه في صمته وسكونه..

سمعنا نادل مرّ قربنا فقال بعفوية: تستطيعون التسليم على الأستاذ..كثيرون يأتون ويسلمون..

قال ذلك ومضى..

بالنسبة لي ما أربك قراري بمصافحة الكاتب الكبير هو أنني كنت أطمع إلى محادثته، فقلت لأنتهي من رواية صباح الورد التي أقرأها لأتحدث معه حولها..كنت أقرأ أيضا أمام العرش..

كما كنت قد تأثرت برواية بداية ونهاية التي بدأها بموت وختمها بانتحار..إضافة لذلك، كان الأستاذ قد ظهر في البرنامج الأسبوعي في القناة الأولى "سينما نعم..سينما لا" الذي كانت تقدّمه المذيعة التلفزيونية خديجة خطاب، وقد شاهدت كيف كان يحنى الأستاذ رأسه ليسمع بوضوح، مكررا عليها في أكثر من مرة أن تعيد له السؤال..من هنا خشيت أن أسبب الحرج له ولي..ومن أنا سوى ذلك الفتى في السنة الجامعية الثانية!

استمر الكاتب يقرأ ما يرى وما لا نرى!

ولا أدري كيف شرب قهوته..!

عدت لقراءة ما يقرأ وما قرأ لنا من حياة..مندهشا من بنائه الروائي، كيف يستطيع خلق كل هذه العوالم مرة ومرات..!

وليست أية عوالم..

هو محترف وعميق في كل ما كتب..!

كان ذلك عام 1989..

ذلك هو جارنا الطيب، الذي جاورناه عامين قبل أن ينتقل صديقي بلال أبو عيّاش إلى الجيزة، فانتقلت معه..

لكن لم أزهد يوما في رؤيته..

ولم أشبع منه لا قراءة لرواياته وأحاديثه، وكلمته الصغيرة في الأهرام..لم تغب عني ولا غبت عنها..

حين غادرت مصر إلى فلسطين، كان آخر مكان أزوره هو شارع النيل..كان ذلك صباحا، مررت ماشيا بقرب بيت نجيب محفوظ، تلك الشقة الأرضية التي تحيط بها أصص الورد من جميع الجهات..فودعتها، وكان أملي أن أدخلها يوما..

غادرت مصر، ومن ضمن ما حملت وجه نجيب محفوظ!

بل من أجمل ما حملت وجهه، رواياته..وحتى الآن ما زلت أحملها.