تمدد صراع القاهرة وأنقرة من ليبيا إلى شرق المتوسط يفتح ملفا شائكا
تاريخ النشر : 2020-08-11 11:16

أصدرت وزارة الخارجية المصرية بياناً رسمياً في الأول من أغسطس (آب) الحالي، يمكن وصفه بأنه تحذيري للجانب التركي رداً على قيام سفينة تركية بتنفيذ أعمال مسح زلزالي في الفترة من 21 يوليو (تموز) إلى 2 أغسطس، حيث اعترضت مصر على تداخل النقطة رقم (8) الواردة بالإنذار الملاحي مع المنطقة الاقتصادية الخالصة المصرية، واعتبرت الإجراء لا يتفق مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ويخالف أحكام القانون الدولي، بل يشكل انتهاكاً واعتداءً على حقوقها السيادية في منطقتها الاقتصادية الخالصة بالبحر المتوسط، وأعلنت أنها لا تعترف بأي نتائج أو آثار قد تترتب على العمل بمنطقة التداخل خاصة، وأنها أودعت إعلاناً لدى الأمم المتحدة بشأن ممارسة مصر لحقوقها في المياه الاقتصادية الخالصة وفق المادة 310 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في 11 يوليو 1983.

ماذا يجري في الوقت الراهن بين الجانبين المصري والتركي؟ وهل ينتقل الصراع تدريجياً وبصورة مباشرة من الداخل الليبي إلى شرق المتوسط؟ وما هو السيناريو المتوقع، وأي اتجاهات يمكن المضي فيها على مستوى الجانبين؟

معطيات جديدة

1- لم يحمل بيان وزارة الخارجية المصرية أي تفاصيل، وإنما أشار إلى أن التداخل يقع عند النقطة رقم 8 الواردة بالإخطار الملاحي، وأنه يشكل انتهاكاً واعتداءً على حقوق مصر السيادية في منطقتها الاقتصادية الخالصة، مما يعني وقوع ضرر حقيقي على الجانب المصري يتطلب التعامل معه رسمياً، بخاصة أن مصر سبق وأن أخطرت الأمم المتحدة رسمياً بممارسة حقوقها بالمنطقة الاقتصادية منذ حقبة الثمانينيات، ومعروف أن أعمال المسح الزلزالي عادة هي جزء من الأعمال التمهيدية للبحث والتنقيب عن النفط والغاز، كما تكون أعمال المسح تمهيداً للبحث والتنقيب عن الهيدروكربونات، بخاصة قرب جزيرة يونانية شرق المتوسط، وبالقرب من منطقة مصر الاقتصادية، وفي جزيرة كريت حيث ينطلق الموقف التركي من أنها لم تستفد من الموارد الطبيعية للجزر اليونانية الواقعة قبالة ساحل بحر إيجة، وأنه من غير المقبول أن تطالب جزيرة كاستيلوريزو الصغيرة، التي تبعد أكثر من 500 كيلومتر من أثينا عن البر التركي،  بمساحة بحرية تبلغ 200 ميل في كل اتجاه.

2- لم يعقب الجانب التركي رسمياً على البيان الرسمي المصري، بل استمر في خطاب سياسي وإعلامي عام، واختص بما يجري بالجانب اليوناني باعتباره الأولوية المهمة بخاصة مع التوتر الناشب بين الجانبين، ودخول ألمانيا على الخط لتقريب وجهات النظر لمنع حدوث مواجهات جديدة في شرق المتوسط، بخاصة أن مصر تعتبر أن جزءاً من عمليات المسح الزلزالي، الذي تقوم به تركيا في منطقة شرق البحر المتوسط قد يتعدى على المياه التي تعتبرها القاهرة منطقة اقتصادية خالصة لها.

3- أعلنت تركيا أنها بصدد إجراء عمليات مسح زلزالي بالمنطقة، لكنها قررت لاحقاً تأجيل ذلك حتى تظهر نتائج المفاوضات بين الجانبين التركي واليوناني بخاصة أن اليونان وضعت قواتها البحرية في حالة تأهب رداً على الخطوة التركية، وقد تم الإعلان على أن سفناً حربية من كلا البلدين تستعد لتسيير دوريات في المنطقة، وهو الأمر الذي يجعل من شرق المتوسط ساحة للتوتر بين تركيا واليونان وقبرص حيث توجد منذ وقت طويل توترات بين اليونان وتركيا بشأن عدد من القضايا، من المجال الجوي لكل منهما والحدود البحرية إلى قبرص المقسمة، كما تزايدت حدة التوتر بسبب محاولات تركيا التنقيب عن الغاز الطبيعي أمام قبرص، الحليف الوثيق لليونان. كما دخلت مصر والاتحاد الأوروبي على خط الأزمة.

4- رفضت تركيا إيقاف أنشطة التنقيب غير القانونية عن الغاز بخاصة بعد توقيع أنقرة مذكرة تفاهم لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج، بل أعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، بأن تركيا ستبدأ البحث والتنقيب في جزء من شرق المتوسط، وفقاً لاتفاقية أبرمت مع حكومة الوفاق الليبية، وأن تركيا مستعدة للعمل مع شركات من دول أخرى، وهو الأمر الذي يمثل تحدياً حقيقياً للحضور المصري في المشهد الليبي عامة، وفي شرق المتوسط بخاصة أن القاهرة دشنت منتدى غاز المتوسط، واستبعدت منه الجانب التركي الذي بات محاصراً بالفعل، ما دفع تركيا لاقتراح الدخول في مفاوضات مع أعضاء المنتدى بدون مشاركة قبرص التي لا يعترف بها الجانب التركي، وهو ما رفضته القاهرة، ومضت في إطار توثيق علاقاتها مع اليونان وقبرص، التي اتجهتا إلى الجانب الإسرائيلي لتوقيع اتفاق خاص بخط للغاز إلى أوروبا، لم تشارك فيه مصر.

5-  دخلت ألمانيا التي تترأس الاتحاد الأوروبي على خط ما يجري تركيا ويونانيّا، وطالبت باتخاذ خطوات متبادلة لخفض التصعيد في المتوسط، مع إجراء المباحثات القبرصية بشكل متزامن ومتوازٍ مع نظيرتها التركية اليونانية، والتأكيد على الاتفاق بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية، الذي يتجاهل حقوق اليونان في المناطق البحرية، ولهذا رفضت اليونان وقبرص التفاوض بشأن مسألة ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، لأنهما تريان أنها مسألة تنظمها العقود والاتفاقات الدولية.

6- أدخلت الممارسات التركية في شرق المتوسط العلاقات الفرنسية التركية في مسار محفوف بالمواجهات، كاد أن يتحول أخيراً إلى احتكاك عسكري بين القوات البحرية للبلدين، وتحديداً أمام السواحل الليبية في يونيو (حزيران) 2020 الماضي، وهو الأمر الذي قد يؤدي لمزيد من الصدامات والانقسامات داخل حلف الناتو.

7- تحول شرق المتوسط إلى ساحة "مواجهة" جديدة لعدد من الأطراف الدولية والإقليمية بسبب حقول الغاز أمام سواحل إسرائيل ومصر وقبرص، ناهيك عن مشروع خط أنابيب غاز "إستميد" بين قبرص وإسرائيل واليونان وإيطاليا، الذي يتوقع المتخصصون أن يصدر 16 مليار متر مكعب من الغاز إلى الاتحاد الأوروبي.

الموقف المصري

إن ترسيم الحدود المصرية البحرية مع دول الجوار الإقليمي، التي لم ترسّم بعد، يجب أن يكون له الأولوية الاستراتيجية في ظل تأمين المصالح المصرية والدفاع عن ثروات مصر في مواردها الطبيعية، وفي ظل إقدام بعض الدول المجاورة للدولة المصرية على إبرام اتفاقيات للحدود اليونانية الإيطالية، وهو ما قد يمس المصالح المصرية، ويتطلب سرعة في التعامل الاستراتيجي دفاعاً عن حقوقها، في هذا الإطار تم الاتفاق المصري القبرصي عام 2003 والاتفاق التنفيذي لعام 2013 أبرمته وفق أساس قانون فيينا للمعاهدات لعام 1969، ولقانون الأمم المتحدة للبحار لعام  82، وهما اتفاقيتان واجبتا النفاذ والتطبيق سواء لمن صدق أو من لم يصدق، علما بأن تركيا من الدول القلائل التي لم تصدق على المعاهدة، ولم توقع على قانون الأمم المتحدة للبحار لعام 1982.

أتمت المعاهدتان المصرية والقبرصية المراحل والخطوات القانونية لإبرام المعاهدات، وتتوافر في هاتين الاتفاقيتين شروط صحة المعاهدة، ولم تحدد الاتفاقية مدداً معينة لتنتهي بعدها، ولم يطرأ تغير جوهري في الظروف يستدعي إعادة النظر، وبالتالي فالاتفاقيتان صحيحتان وقد اتخذت الدولتان موقفاً قانونياً صحيحاً، ولا جدال في ذلك، وهنالك تصوران تطرحهما تركيا لتبرير موقفها من قبرص؛ الأول، أن قبرص جزيرة والجزر ليس لديها مناطق اقتصادية خالصة، وليس لديها سوى 12 ميلاً فقط، الثاني، لم تراع قبرص مصالح قبرص التركية، ولكن قبرص التركية غير معترف بها لا من الأمم المتحدة، ولا الاتحاد الأوروبي، ولا أي دولة أخرى في العالم إلا تركيا.

إن المسافة بين خطي الأساس بين قبرص ومصر 207 أميال بحرية، منها 12 ميلا لكل دولة، حيث أصبح 24 وتتبقى المسافة 183 ميلاً لمصر، و91.5 ميل ولقبرص. ولو فرضنا صحة الادعاءات التركية التي تتعلق بالنصيب القبرصي لا المصري، فإن المساحات البحرية المصرية هي ملك خاص لمصر لا يشاركها فيها أحد.

في أعقاب التوقيع على اتفاقية لتعيين المناطق الاقتصادية الخالصة بين اليونان وإيطاليا، أعلنت مصر واليونان خطوات للبدء في تنفيذ ترسيم الحدود البحرية المشتركة، وبالتالي ستتمكن مصر من التنقيب عن النفط والغاز في المناطق الاقتصادية الغربية الواقعة على الحدود البحرية مع تلك الخاصة باليونان. ويشير الوضع الراهن للحدود إلى أن أقصر مسافة بين مصر وتركيا هي الخط الواصل بين بلطيم وأرخبيل شاويش كوي 274 ميل بحري، وأقصر مسافة بين قبرص واليونان هي الخط الواصل بين پافوس (قبرص) وپالكاسترو (كريت) 297 ميلاً بحرياً وأن النقاط الثماني شمال مصر هي نقاط الحدود المصرية القبرصية حسب الاتفاقية المبرمة عام 2003. كما يظهر حقلا لڤياثان وشمشون أن مستطيل المياه المفتوحة عرضه (بين قبرص واليونان) 297 ميلاً بحرياً، وارتفاعه (بين مصر وتركيا) 274 ميلاً بحرياً. ولذلك أصبحت هناك حدود مشتركة بين مصر وتركيا. علماً بأن مصر ترفض من جانبها تقديم طلبات لترسيم حدودها الشرقية مع إسرائيل، لأن هذا يضيع حق الدولة الفلسطينية المفترض قيامها في ترسيم حدودها بنفسها، وأن ذلك كان من مبادئ المفاوض المصري في اتفاقية كامب ديفيد، واستمر قائماً حتى الآن.

الخلاصات الأخيرة

اتخذت كل من قبرص واليونان خطوات جادة في إنشاء خط غاز (East Med) واهتمام من الاتحاد الأوروبي لإنجاز الخط الذي سينقل الغاز من إسرائيل وقبرص عبر خط يمتد بالمياه العميقة في المتوسط، ويصل إلى اليونان ثم أوروبا ليصبح بديلاً عن الغاز الروسي الذي يسيطر على السوق الأوروبية، وإذا تحول هذا المشروع إلى أمر واقع وتم تنفيذه فعليا (مقدر لذلك ثلاث سنوات)، فسيعني خسارة مصر لدورها المستقبلي كمنصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي شرق المتوسط، ووفقاً للرؤية التركية لحدودها البحرية سيقطع الشريط البحري الواصل من تركيا إلى ليبيا ذلك الشريط البحري الواصل بين قبرص واليونان، وهذا يعني أن خط (East Med) حتى يصل إلى اليونان سيكون عليه أن يمر عبر المياه التركية أو عبر المياه المصرية. والأكثر ترجيحاً في هذه الحالة وبسبب الخلافات التركية اليونانية، فإن الخط سيمر في المياه المصرية، ثم المياه اليونانية وهنا يظهر أن المصلحة المصرية تتوافق نظرياً مع الرؤية التركية. وكانت قبرص قد أعطت الشركات الثلاث المشرفة على حقل أفروديت الضوء الأخضر لبدء ضخ الغاز إلى محطات التسييل المصرية وتصديره للخارج. لكن صعّدت إسرائيل من خلافها مع قبرص، وأعلنت رفضها لأي أعمال تنمية في حقل أفروديت حتى يتم استرداد حقها من الحقل، وستكون نتيجة هذا التصعيد تعطل أو إيقاف أعمال التنقيب في حقل أفروديت، وبالتالي ستكون محصلة هذا النزاع توقف صفقة الغاز بين مصر وقبرص، وعدم اكتمال إنشاء خط الغاز بين مصر وقبرص، وفقدان مصر لمكاسب اقتصادية كبيرة.