ثلاث استراتيجيات إسرائيلية تجاه قطاع غزة خلال الانقسام بين: "الخنق والاحتواء والترويض"
تاريخ النشر : 2020-08-07 10:04

منذ أن سيطرت حركة حماس على قطاع غزة بالقوة صيف عام 2007، بعد صراع دامي مع السلطة الفلسطينية وحركة فتح، بدأت إسرائيل مباشرة في تصنيف القطاع تحت حكم الحركة كإقليم معادي، بما يوفر لها القدرة على التحرك على المستوى الأمني والعسكري تجاه قطاع غزة، على اعتبار أن هناك جهة معادية أصبحت تحكم القطاع، الأمر الذي يسمح لها باتخاذ إجراءات وتدابير معادية تجاه القطاع.

وكعادة السياسة الإسرائيلية المتغيرة والغير ثابتة، حاولت إسرائيل استخدام طرق مختلفة ومتعددة في التعامل مع قطاع غزة تحت حكم حماس، لتجنيب القطاع الانفجار السكاني من جهة، وخنق حركة حماس والقوى المؤيدة لها من جهة أخرى وتوظيف الوضع الناشئ في القطاع كورقة ضغط تجاه السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير في أي مفاوضات قادمة، فقد كان المحدد الرئيسي للتعامل الإسرائيلي مع الحالة الطارئة في القطاع هو استثمارها لأبعد حدً على المستوى السياسي والإعلامي للهروب من استحقاقات التسوية السياسية وعملية السلام، وترويض حركة حماس وفصائل المقاومة وتحميلها مسؤولية ما يجري في القطاع من فقر وبطالة وأي أحداث أمنية. ويمكن لنا استعراض الاستراتيجيات الإسرائيلية تجاه قطاع غزة وحركة حماس خلال سنوات الانقسام في سياق العرض التالي:

استراتيجية الخنق

منذ فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية وتشكيلها الحكومة العاشرة، عملت إسرائيل على فرض حصار مالي واقتصادي على الحركة وحكومتها، لدفعها للالتزام بشروط اللجنة الرباعية، التي تضمنت الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف، والالتزام بالاتفاقيات الموقعة، وقد بدأت استراتيجية الخنق عقب عملية خطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، في صيف العام 20006، من خلال إعلاق المعابر وقصف محطة توليد الكهرباء، وتعززت مع سيطرة حركة حماس على قطاع غزة بالقوة العسكرية صيف عام 2007. في إطار هذه الاستراتيجية عملت إسرائيل على فرض حصار كامل على قطاع غزة، بهدف خنق القطاع والحركة ودفع الجماهير الفلسطينية للخروج على حكم الحركة.

خلال تلك الفترة التي امتدت من عام 2006 وحتى عام 2009، عانى القطاع من شح كبير في البضائع والمواد الغذائية والمواد البترولية، كما عانى من نقص في مواد البناء، حتى وصلت الأمر بالمواطنين استخدام زيت الطعام كوقود للسيارات، وإنتاج اسمنت محلي ومواد دهان صناعة محلية.

في تلك الفترة عملت إسرائيل على منع حركة الضائع والأفراد، من وإلى غزة، بهدف خنق حكم الحركة في غزة ودفعه للانهيار، لكن صمود حركة حماس وعدم وجود أزمات كبيرة كما تعاني منها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الوقت الحالي ساهم في تجاوز المرحلة، لكن في المقابل لم يكن هناك رغبة حقيقة لدى إسرائيل في تدمير حكم الحركة في القطاع، كون أن إسرائيل شنت حرب تقليم أظافر (حرب 2008) في تلك المرحلة ولم ترغب في القضاء على حكم الحركة لاعتبارات مختلفة.

استراتيجية الاحتواء

بعد صعود اليمين الديني لسدة للحكم في إسرائيل بزعامة نتنياهو وحزب الليكود بعد فشل حزب كاديما بزعامة تسفي لفني في تشكيل الحكومة، تبنت إسرائيل استراتيجية جديدة تجاه حركة حماس والقطاع، تقوم هذه الاستراتيجية على أساس احتواء الحركة وتعظيم الاستفادة من حالة الانقسام على المستوى السياسي والإعلامي. الإطار العام لاستراتيجية الاحتواء قام على تعزيز الوضع الناشئ في قطاع غزة ضمن إطار سياسة (العصا والجزرة)، عبر سياسة فتح المعابر بصورة شبة كلية، وزيادة عدد الشاحنات لكي تصل إلى أكثر من 500 شاحنة يومياً، كما ساهمت في وزيادة مساحة الصيد، وتخفيف القيود على حركة البضائع والأفراد من وإلى قطاع غزة. لقد جاءت هذه التسهيلات في سياق سياسة الجزرة المرتبطة بشرط توفير الهدوء النسبي لجبهة ومستوطنات غلاف غزة.

كانت تهدف إسرائيل ونتنياهو تحديد من خلف هذه السياسات تجاه القطاع وحركة حماس تعزيز حالة فصل الجغرافيا السياسية الفلسطينية لمنع قيام دولة فلسطينية مترابطة، وبناء على ذلك عملت إسرائيل على منع أي فرصة للمصالحة بتهديد السلطة تارة وتقديم تسهيلات لغزة تارة أخرى، فالهدف الرئيسي من خلف سياسة الاحتواء كان يتمحور حول احتواء حكم الحركة في غزة بشكل أو بأخر، واستمراره لأبعد مدى لنسف قيام دولة فلسطينية، كون أن ذلك ينسجم مع رؤية اليمن الديني بزعامة نتنياهو وحزب الليكود الذي يعاض بشدة قيام دولة فلسطينية باعتبارها النقيض السياسي والتاريخي لدولة إسرائيل.

استمرت إسرائيل في استخدام استراتيجية الاحتواء في التعامل مع غزة وحركة حماس من بداية العام 2009، وحتى نهاية حرب العام 2014، حيث عملت خلالها إسرائيل على تدمير البنية التحتية للقطاع بشكل متعمد لكي تصل رسالة لحركة حماس وفصائل غزة أن أي إخلال بتوفير الهدوء على جبهة غزة يعني تدمير كامل لقطاع غزة.

استراتيجية الترويض

عقب نجاح استراتيجية الاحتواء في تحقيق أهدافها سواء عبر التسهيلات أو عبر الحروب وجولات التصعيد؛ انتقلت إسرائيل لاستراتيجية جديدة للتعامل مع حركة حماس وحكمها في القطاع، تقوم هذه السياسة على أساس ترويض حركة حماس سياسياً وإعلامياً ودفها أكثر للتوفير الهدوء مقابل التسهيلات، وإلا فإن مشهد الدمار مازال حاضرًا

عمدت إسرائيل لاستخدام استراتيجية الترويض تجاه حركة حماس عقب حرب العام 2014 مباشرة، كون أن البيئة الدولية والإقليمية باتت تنظر لحركة حماس بنوع من الإيجابية، فالرؤية الدولية والإقليمية عملت على نقل حركة حماس من فصيل مقاوم إلى حزب سياسي يقود مشروع حكم، وقد شارك في تنفيذ هذه الاستراتيجية العديد من الأطراف الدولية والإقليمية، والشخصيات العربية والدولية؛ التي عملت على نقل رسائل سياسية من إسرائيل والولايات المتحدة لحركة حماس، التي تؤكد على إمكانية قبول الحركة كلاعب رئيسي في المعادلة الفلسطينية وكلاعب وحيد في معادلة قطاع غزة، لكن شريطة التزام الحركة بشروط اللجنة الرباعية، وتوفير الهدوء على جبهة غزة، وتفضيل العمل السياسي على العمل المسلح.

في هذا السياق جاءت آلية روبرت سيري منسق الأمم المتحدة لعملية السلام السابق، التي وضعت آلية مراقبة دولية وإسرائيلية على دخول مواد البناء لقطاع غزة، وحصر أسماء المستفيدين في كشوفات تقدم مسبقا للجانب الإسرائيلي، مرفقة بخرائط للمنازل والبيوت التي يتم إعادة إعمارها كشرط لدخول مواد البناء، وخاصة الحديد والاسمنت القطاع. كما تندرج في سياقها التفاهمات التي عقدت مؤخرًا بين إسرائيل وحركة حماس برعاية دولية وإقليمية، والتي بموجبها تعهدت الحركة بوقف مسيرات العودة وتوفير الهدوء الكامل على جبهة غزة مقابل إدخال الأموال القطرية للقطاع كل شهر تقريباً ودعم قطاع الكهرباء بصورة مستمرة.

يتميز العقل الاستراتيجي الإسرائيلي بالتغير وعدم الثبات على موقف ورؤية واحدة، فهو يمتاز بالتحول السريع، والبحث عن الفرص ومعالجة التحديات التي تواجه إسرائيل في ناطقها المحلي والإقليمي والدولي، وتحويل كل أزمة أو إشكالية لإنجاز، فقد استطاعت إسرائيل الاستفادة من حالة الانقسام للهروب من استحقاقات عملية السلام، ومنع قيام دولة فلسطينية، وترويض حركة حماس بعد حشرها في زاوية الحكم في غزة للضغط عليها لتقديم تنازلات مقابل بقاء حكمها ودعمه.

في إطار المعالجات الأمنية والسياسية لوضع قطاع غزة في بعد سيطرة حركة حماس عليه وطرد السلطة الفلسطينية منه، عملت السياسات العامة الإسرائيلية على تحقيق أكبر استفادة ممكنة من حكم حركة حماس لغزة، عبر ثلاث استراتيجيات، تنوعت بين الخنق والاحتواء والترويض، وجلها يهدف إلى تعظيم استفادة إسرائيل من حالة الانقسام الفلسطيني، وإضعاف السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير عبر إخراج ورقة غزة بثقلها السياسي والسكاني من يد المفاوض الفلسطيني، وترويض حركة حماس سياسياً وإعلامياً لدفعها للتخلي عن سلاحها عبر التلويح بالتسهيلات تارة والحرب تارة أخرة.

ربما لا تدرك حركة حماس أن الاحتلال الإسرائيلي استخدم تجاه الحركة وحكمها في قطاع غزة هذه الإستراتيجيات المختلفة، لكنها تدرك بكل تأكيد أن استمرار مرحلة الترويض طويلاً يمكن أن يؤثر على صورة ومكانة الحركة على المستوى الداخلي والخارجي، خاصة أن استمرار الحركة في التفاهمات مع الاحتلال في الوقت الذي يهدد فيه بضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية يعني مزيد من استنزاف الحركة على المستوي السياسي والإعلامي بدون مقابل حقيقي يساهم في إخراج حكم الحركة من مأزقه الاجتماعي والاقتصادي في ظل تردي الأوضاع الإنسانية، الأمر الذي يجعل من المصالحة الطريق الوحيد لوقف هذا الاستنزاف السياسي والإعلامي.