مهاترات وطن, ازمة قيادة
تاريخ النشر : 2020-08-01 09:16

توقفت امام مقابلة أجريت مع الدكتور عادل سمارة تكلم فيها عن الفساد ومحاربته. تكلم كثيرا عما جرى قبل ٢٠ سنة من حراك تمخض ببيان ال٢٠، ووصف ما يجري اليوم من اعتقالات لنشطاء ضد الفساد مشابها. عبارة نهائية كانت في حواره استشهد فيها بعبارة لأحد الصهاينة عندما قال ان الجيل القديم من الفلسطينيين سيموت والجيل الجديد سينسى، بالإشارة بحديثه الى الجيل الجديد من الحراكيين ضد الفساد. 

فكرت كيف اوصلتنا السلطة الى هنا. 

اوصلتنا الى مرحلة صار الاحتلال بها واقع نتعايش معه، امام الحقيقة الكارثية التي علينا ان نتعامل معها مع كل دقيقة وسط حياة تحت سلطة فاسدة. 

قبل عشرين عام، كانت العبارات التي يطلقها الناس ضد الفساد، تبدو وكأنها رفاهية لفئة من المثقفين، وكعادتنا كنا منغمسين ببناء سلطة وإعطاء هذه السلطة فرصة، وكان لسان الحال الا يكفي هذه السلطة تحدي الاحتلال؟ 

اليوم وبعد أكثر من عقدين ولقد استفحل الفساد، لم يعد الحديث عن الاحتلال بالأمر الأهم، فوجوده أصبح وكأنه شأنا إقليميا. فلم يعد للمفاوضات مكان الا صاحبها الذي لا يزال يدعو اليها، ولم يعد للمصالحة امل الا باستخدامها كورقة للمراوغة والضغط بين الفصيلين من اجل جني مكاسب فصائلية لا وطنية. وانغماس مجتمعي بلقمة العيش والسترة إذا ما تمكن المحظوظ منا منها. والباقي قصص مرعبة لجرائم يومية مليئة بالعنف والوحشية والظلم وانعدام الاخلاق وغياب للإنسانية وتسخير مسيء لكل ما كان يجمعنا من قيم يحددها الدين والعرف. فصار الدين سيفا على الرقاب وصارت العشيرة هي القاضي والجلاد.

ولا يمكن بالفعل التركيز على مواجهة احتلال سواء بالضم وتبعاته، او بالصعوبات اليومية التي تنجم عن العيش تحت الاحتلال كما الحال بالقدس، في وقت تحول فيه الفساد الى طريقة حكم السلطة وصارت الياته هي القمع وكبت الحريات وتكميم الافواه. وعليه، صار المواطن مستهدفا إذا ما عبر عن رأيه او دافع عن رأي ما.

ما جري من اعتقالات كان اقل الشرور. فبالنهاية تم التركيز الإعلامي من قبل النشطاء والمدافعين عنهم. وهنا لا أقول الاعلام المحلي، لأن الاعلام المحلي لم يعد يمتلك أي حرية بالتعبير. فاذا ما كان المواطن معرض للاعتقال والملاحقة والتنكيل وربما القتل إذا ما عبر عن رأيه، فمن البديهي ان تكون وكالات الانباء معرضة لضغوطات وتهديدات أكبر بكثير. والعالم غير المحلي اشكالي كذلك، فلا يريد ان يرى العالم اصحب هذه القضية “الطاهرة” بهذا القدر من عدم الطهارة. فكيف نكون من ندافع عن اطهر قضية واعدل قضية بالوجود، ونحن غارقون بالدنس. فلا وصف للفساد الا الدناسة. واستفحاله كما نراه اليوم كالسرطان الذي يمتد بالجسد فنتشر ليأكله حتى يأكل بالنهاية حياة صاحبه.

وبين تفاقم القضايا الملحة وبين تدهور الوضع الاقتصادي الذي ترتب عن وباء الكورونا، يبدو ان رفض السلطة بأخذ مستحقات المقاصة يعرض الاقتصاد لخراب أكبر. فالمتضرر من عدم استرجاع أموال المقاصة هم الناس الذين باعوا واشتروا. التجار الذين استخدموا المقاصة ودفعوا مستحقاتها مسبقا على فرضية رجوع أموالها لهم. فأصبح المواطن تحت سلطة البنك والسلطة. البنك لا يرحم العملاء وشيكاتهم وقروضهم، والسلطة لا تفرجها على المواطن لاسترجاع حقوقه. مما يجعلنا نتساءل هل من هدف غير الضغط على الشعب أكثر هناك من قبل السلطة؟ 

والقضايا الملحة صارت تحاصرنا من كل الاتجاهات، هناك عنف يتربص على باب البيوت لمن ظن نفسه امنا من العنف داخل بيته. وما يجري بداخل البيوت المؤصدة لم تعد فجاجته تستره، عنف يودي بحياة اناث. صرخات انثى يصدح بين عمارات سكنية بمدينة البيرة ذكرنا بصراخ اسراء غريب قبل سنة. فهل قتلت صاحبة ذلك الصراخ؟ جرائم يندى لها الجبين. محزنة، مؤلمة، موجعة. وما ان خرج المرد من بيته، فشجار بالشارع على أي شيء ومن اجل أي شيء ممكن ان ينتهي بجريمة أخرى. وإذا ما امنت هذا، لا تضمن ان تأمن رجوعك سالما على طريق مليء بتزاحم مروري لا يحترم الماشي فيه ابجديات السلامة ولا السائق يعبأ لأخلاقيات القيادة. 

كم أصبحت كلمة اخلاق نخبوية في هذا السياق! 

ويبقى موضوع كل من يستمر بالدق على الخزان هو الأخطر. لأن تكتيم الافواه وصل الى مرحلة مليئة بالخطورة. 

فبعد ما شاهدناه من اعتقالات لأكثر من عشرين رجلا بلا لائحة اتهام واضحة وبتحقيق غير مفهوم وتردي الأوضاع الصحية لبعضهم (تكبيل معصمي الرجل بسرير المستشفى)، كما شهدنا من رعب حقيقي متمثل بطريقة الاعتقال (خطف الرجل وطفله). تكرر المشهد باعتقال شاب عشريني بينما كان يدفن أحد والديه. ولكن الأسوأ والأخطر هو ما يبدو الغائب عما يجري، وهو مطاردة الناشط البارز نزار بنات منذ أسابيع. 

نزار بنات يمثل الصوت الفلسطيني الأصيل برفعه بقوة ذلك الصوت عاليا بلا هوادة ولا خوف ولا رياء. مدافع شرس عن قضايا الرأي العام ولا يأبه لأحد. لا فصيل له الا الوطن، والأخلاق عنده تعلو على الشعارات الدينية التسويقية، ويحارب حتى النهاية من اجل القضايا التي يؤمن بها. ويدافع من اجل حقه كمواطن، ويضع المسؤول أيا كان امام مساءلة لا رحمة فيها الا بالعدل. 

نزار بنات شكل مع مرور السنوات قاعدة شرعية للسلطة، فهو يقول ما يريده بكل جرأة، وما كان من المتابع الا الظن بهذه السلطة بعض الخير، فمن يسمح بهذا المجال من الاختلاف والمساءلة يتم احترامه. ولكن يبدو ان هذا الزمن ولى، واعيد وأكرر، منذ سمحنا بأن يتدخل جهاز الامن الوقائي بتحقيق نيفين العواودة واستخدام ملقط الحواجب كدليل للجريمة، واسكات العائلة بمنشد والكثير من الذهب. منذ تركنا ما يجري من تعديلات وتغييرات وتعيينات بالجهاز القضائي وجعلنا العشائر بديلا للقوانين تدريجيا. منذ تداولنا المحسوبية وفساد التعيينات وتسريبات المراسلات الجلية بالفساد وتعدد اوجهه كمواضيع نميمة ننتهي من واحدة لندخل في أخرى. وسكتنا عن جريمة قتل رائد الغروف بينما الحقيقة لا تزال تائهة. منذ سمحنا ان يخدعنا ولو للحظات زوج اخت اسراء غريب وعائلتها بأن من كان يضربها هو الجن وأنها ملموسة.  

فلا غرابة ان يعيش المجرمين بيننا ويتنفذوا ويستبيحوا بنا. ولا غرابة من حالة اليأس القاتمة المسيطرة على وضعنا، فلم يعد هناك للأمل مكان. كل يختبئ في بيته ويجعل منه محرابا وصومعة. 

لأن من يتجرأ على الكلام ستحرق ممتلكاته، ويعتقل، ويطارد. 

نزار بنات مطارد منذ أسابيع، ولم نقل بعد كلنا نزار. 

لأننا لن نكون نزار ابدا. 

فسكوتنا عن قضية نزار بنات هو جريمة جديدة تسجل ضدنا. لأنه إذا ما قتل صوت نزار لن يتبقى منا الا النباح. 

ان يكون نزار بنات مطاردا فهذه جريمة نكراء نتحمل نحن متابعي نزار بنات وزرها سواء اختلفنا او اتفقنا معه. ولكن ما احوجنا لصوته في هذا الزمن الذي لم يعد لنا صوت فيه. 

ولكن بكل الأحوال سنجبر على ان نكون كلنا نزار ولن يكون لنا مكان امن نلجأ له… ربما اللجوء الى بلد يستطيع المرء ان يعبر فيه عن نفسه بلا خشية من قتل او اعتقال او تنكيل او مطاردة. 

يصنعون بغبائهم من نزار بنات ناجي العلي وغسان كنفاني… ولكن لن تطال يد غدرهم حياته، لأننا وبعد كل هذه السنوات عرفنا ان عدونا بداخلنا وليس ذلك المتربص لنا خارجنا فقط.