أردوغان: أوهام القوة وعناصر الضعف
تاريخ النشر : 2020-07-25 11:53

ما الذى يجعل أردوغان مصدراً للمتاعب السياسية؟ متمرداً على القانون الدولى؟ متوسعاً فى النفوذ الإقليمى؟ غازياً لأراضى 3 دول عربية؟ مهدداً لثمانى دول فى المنطقة؟ صاحب 12 موطئاً عسكرياً وأمنياً فى العالم العربى وأفريقيا؟

ما الذى يجعل أردوغان لا يكترث بإسقاط مقاتلة روسية، ولا يأبه بإسقاط صفقة لصواريخ باتريوت الأمريكية ويشترى صفقة صواريخ (إس 400) الروسية؟

ما الذى يجعل الرجل يتحدى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية ويهدد ثروات الغاز فى شرق المتوسط، ويتحرش بقطعة بحرية فرنسية، ويبدأ فى عمليات تنقيب قبالة سواحل اليونان وقبرص، ويسعى للتنقيب فى ليبيا؟

ما الذى يعطى الرجل قوة أن يسب زعماء أكبر دول أوروبا، ويتفوه بأسوأ العبارات ضد زعماء دول ذات سيادة؟

لماذا يفعل أردوغان ذلك كله ولا يخشى ردود الفعل، ولا العقاب المعنوى، ولا عمليات ردع عسكرى؟

بالتأكيد هناك عناصر قوة، سواء كانت حقيقية وواقعية ملموسة، أو كانت من نسيج حالة «خلل الإدراك» التى تسيطر عليه فتجعله يعيش حالة من المبالغة فى القوة المبنية على وهم وحلم «تركيا القوية التى ستعيد مجد الخلافة العثمانية والسيطرة على 29 ولاية من بلاد العرب إلى دول آسيا ومنطقة البلقان»؟

مثله مثل كل القوى الفاعلة فى هذا العالم المعاصر، هناك «عناصر قوى» لصالحه، وهناك عناصر ضعف «تقف ضد مشروعه التوسعى».

هنا السؤال: ما هى عناصر القوة لديه؟ وما هى عناصر الضعف المضادة له؟

أهم عناصر القوة لدى أردوغان هى استناده على شعبية سياسية فى الداخل التركى تستند على أغلبية لحزبه وللقوى المتحالف معها فى الحكم.

البرلمان التركى كان لسنوات طويلة سلطة التشريع الهامة، ومركز القوة الفعال فى الحياة السياسية التركية الذى تلجأ إليه كل القوى الحاكمة حتى فى ظل سطوة المؤسسة العسكرية.

تأسست الجمعية التأسيسية التركية فى مارس 1889 بهدف إسقاط السلطان عبدالحميد الثانى، وهى التى شرعت بعد ذلك حق تأسيس أحزاب سياسية.

وفى الانتخابات البرلمانية الأخيرة التى تقوم على نظام التمثيل النسبى للأحزاب حصل حزب العدالة والتنمية (حزب أردوغان) على 290 مقعداً، وحزب الحركة القومية على 49 مقعداً (الحزب المؤتلف مع أردوغان).

ويبلغ عدد المقاعد 600 مقعد، مما يعطى لأردوغان وائتلافه الحاكم أغلبية تؤهله لتمرير مشروعات القوانين.

وتجرى الانتخابات البرلمانية كل خمس سنوات وتنتهى ولاية هذا البرلمان فى 2023.

ثانياً: بعد محاولة الانقلاب الأخيرة عام 2016، نفذ الرجل مشروعاً شريراً للتخلص من كافة القوى التى كانت تنازعه النفوذ فى الحزب، والمعارضة، والمؤسسات السياسية، والإعلام، والقضاء والتعليم، والمناصب الحكومية.

استطاع أردوغان تحت دعوى التخلص من المتآمرين ضد السلطة الشرعية، سواء بالإبعاد الإدارى أو الفصل التعسفى أو الاعتقال، أن يتخلص من 120 ألفاً على الأقل من القوى المعادية له.

وكان أهم عناصر الانقلاب على الانقلاب هو التقليص الدستورى والسياسى الفعلى لسلطات ونفوذ وصلاحيات المؤسسة العسكرية، التى كانت منذ العهد الكمالى مؤسسة فوق دستورية لها سلطة تعلو كافة المؤسسات الدستورية.

ثالثاً: استطاع أردوغان، عقب الانقلاب إجراء تعديلات دستورية، معتمداً على أغلبيته البرلمانية وقوة حزبه وائتلافه الحاكم، وتشريع سلطات غير مسبوقة لمنصب رئيس الجمهورية لم تمنح لرئيس قبله منذ إنهاء الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية.

وقوة أردوغان الحالية كرئيس للبلاد تنبع دستورياً من الصلاحيات التى حصل عليها بعد التعديلات التى أجريت عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، يمكن تحديدها على النحو التالى:

1- تم إلغاء الدور المتميز للمؤسسة العسكرية، وأصبحت الآن تحت رقابة جهة مدنية، وتم إلغاء المقعدين المخصصين للجيش فى المحكمة الدستورية.

2- إلغاء منصب رئيس الوزراء، وبالتالى تحولت السلطات التنفيذية لهذا المنصب إلى رئيس الجمهورية، ويقوم الرئيس بموجب التعديل بتعيين نائب الرئيس والوزراء.

وأصبحت سلطة الرئيس هى المؤثرة فى إعداد الموازنة العامة للدولة، وفى حال رفضها يتم سريان موازنة العام السابق لها!

3- فى القضاء تم تخفيض مجلس القضاء من 22 عضواً إلى 13 عضواً، يسمى الرئيس 4 أعضاء منهم.

4- أصبح من حق الرئيس إعلان حالة الطوارئ فى بعض الولايات أو فى البلاد كلها، ويحق له إصدار أى قوانين متعلقة بالحكم.

5- بناء على هذه السلطات يعد الرئيس الآن مقترحاً مضاداً للحريات خاصاً بوسائل التواصل الاجتماعى، يعتبر مقيداً للحريات العامة والخاصة.

رابعاً: العلاقة العنكبوتية مع شبكة رجال الأعمال التى تسيطر على أكثر من 70٪ من حجم «البيزنس» فى تركيا.

وتؤكد المعارضة التركية أن علاقة أردوغان وابنه وزوج ابنته بهذه «الشبكة المالية» القوية الفاعلة هى علاقة مصالح خاصة تصل إلى حد الفساد الذى يعاقب عليه القانون.

وخلق أردوغان لهذه الشبكة مصالح عظمى واستثنائية، من خلال فتح مجالات عمل وتوريد وعقود مع قطر وليبيا وإثيوبيا، وفى مناطق السيطرة والنفوذ فى إدلب والموصل، حيث تحظى البضائع التركية -بقوة السلاح- بمعاملة تفضيلية تعرض فيها سلعها وخدماتها بالأسعار والمواصفات التى تخدم مصالحها.

خامساً: العلاقة الخاصة مع واشنطن وتل أبيب:

يؤكد جون بولتون، مستشار الأمن القومى السابق للرئيس ترامب، فى كتابه الأخير، ويؤكد داود أوغلو شريك أردوغان السابق فى الحزب الحاكم، أن الرجل يخدم مصالح الولايات المتحدة، ويعرض خدماته الدائمة على واشنطن.

وترتبط أنقرة بتل أبيب بعلاقات تجارية قوية للغاية، وتدخل فى مجالات تصنيع محركات طائرات مقاتلة، وتبادل معلومات استخباراتية.

ولا يخفى على أحد قيام أردوغان بتدعيم علاقاته بإسرائيل بشكل لم يسبقه إليه أو يتفوق عليه رئيس تركى سبقه.

ويقول السياسى الفلسطينى محمد دحلان والمتابع الدقيق للشأن التركى، والذى تراه أنقرة أحد أكبر المنتقدين لها، فى دراسة له عن العلاقة التركية - الإسرائيلية الآتى:

1- كانت تركيا أول دولة فى المنطقة تعترف بدولة إسرائيل عام 1949.

2- أول دولة أرسلت سفيراً لإسرائيل هى تركيا عام 1953.

3- 49٪ من الأسمنت المستورد لبناء المستوطنات الإسرائيلية من تركيا.

4- 45٪ من الحديد المستورد فى إسرائيل لبناء المستوطنات من شركات تركية.

ويضيف محمد دحلان أن حجم العلاقات السياحية بين البلدين يمكن رصده من خلال وجود 300 رحلة شهرياً بين البلدين. ويكشف عن بيع إسرائيل لتركيا 700 دبابة.

سادساً: العلاقة الخاصة مع قطر:

يشترك أردوغان مع الحكم فى دولة قطر على 3 أمور:

1- دعم جماعات الإسلام السياسى (الإخوان - داعش - النصرة).

2- معاداة محور مصر، الإمارات، السعودية.

3- إعادة صياغة الأمن القومى فى المنطقة بشكل يخدم مشروع تقسيم العالم العربى رأسياً وأفقياً.

وفى هذا المجال قامت قطر بتمويل كل عمليات الغزو التركى الأخيرة لسوريا، وذلك بناء على تصريح علنى لوزير الدفاع التركى، وكانت قطر الدولة الأولى الداعمة لتركيا عقب محاولة الانقلاب، من خلال زيارة سريعة قام بها الأمير بعد ساعات من المحاولة الانقلابية وتقديم قرض بشروط خاصة مقداره 15 مليار دولار.

وتقوم قطر بتمويل الدور التركى فى إثيوبيا وليبيا.

وآخر أوجه التعاون القطرى التركى هو تعهد قطر بتمويل وتأمين الوجود العسكرى التركى فى «مالطا» لضمان نقل النفط والغاز الليبى إلى أوروبا.

سابعاً: التعاون الوثيق مع «الناتو»، وهو أمر يعتمد عليه أردوغان بقوة لسببين أساسيين:

1- وجود قاعدة إنجرليك الاستراتيجية، التى تضم صواريخ باليستية وطائرات عسكرية ثقيلة تحمل رؤوساً نووية للتأمين الاستراتيجى للحلف.

2- قيام تركيا بالمشاركة بـ190 ألف جندى من مختلف الأسلحة فى قوات الحلف، لتكون بذلك ثانى دولة من ناحية عدد القوات فى «الناتو».

سابعاً: يعتمد أردوغان على جيش تركى قوى، هو الحادى عشر فى العالم، والرابع فى حلف الأطلنطى، يبلغ قوامه 730 ألف جندى وضابط، ويمتلك ترسانة تسليح تعتمد أساساً على قاعدة صناعات عسكرية وطنية.

وتعتبر الغزوات العسكرية الأخيرة لأردوغان هى «قاعدة تسويق عملية» لصناعة السلاح التركى وتقوم بتنمية مبيعاتها.

وتتميز هذه الصناعة العسكرية بإنتاج الطائرات المسيرة، والسيارات والمجنزرات، وتتعاون مع قطر فى صناعة دبابات حديثة، وتقوم بتصنيع محركات للطائرات المقاتلة الأمريكية.

وتمتلك صناعة السلاح التركية قاعدة مميزة فى صناعة الصواريخ ذات الاستخدامات المتعددة، منها صواريخ أرض - أرض قصيرة ومتوسطة المدى، وآخرها صاروخ باليستى يصل مداه إلى 2500 كم. وتمتلك تركيا صواريخ شهيرة مثل: بوزدوجان، وبورا الباليستى من إنتاج شركة «ساج» الوطنية.

وتعمدت تركيا إظهار ذلك فى معاركها بإدلب وكردستان، وفى المعارض العسكرية العام الماضى، وأخيراً فى عمليات نقل الأسلحة على الجهة الليبية.

تبدو هذه العناصر، من ناحية واقعية، هى عناصر قوة، ولكنها ليست الأهم على الإطلاق.

الذى جعل أردوغان يتجرأ فى استخدام هذه العناصر، هو ارتباك واضطراب النظام العالمى، وضعف دول الاتحاد الأوروبى بعد خروج بريطانيا وضعف الاقتصاد الأوروبى.

وشجع أردوغان أيضاً وجود ساحات قتال مفتوحة فى مناطق التوتر العربية من اليمن إلى ليبيا، ومن سوريا إلى العراق.

وكما يقول أحد الدبلوماسيين الأوروبيين «لقد وجد أردوغان الملعب العربى خالياً وبلا حراسة مرمى فلماذا لا يقذف الكرة ويسجل أهدافاً؟!

للوهلة الأولى تبدو هذه عناصر قوة يمكن أن تضع أردوغان فى موقف الرابح أو الفائز الأبدى فى أى صراع داخلى أو إقليمى، ولكن بعدما نتأمل واقع الحال اليوم، بالأرقام والإحصاءات، والوقائع، سنجد أن عناصر الضعف التى يعانى منها الرجل ونظامه وحزبه ستؤدى -لا محالة- إلى نهاية حكمه نهاية تراجيدية، وسيكون سقوطه سقوطاً مدوياً.