تأطير المثقف بطاقية أخفاء
تاريخ النشر : 2013-11-04 11:28

قد يبدو للوهلة الأولى بأن الفارق عميق بين الطبقة المخملية المتربعة على أبراجها العاجية وبين الطبقات الأُخرى التى تكدح من أجل توفير قوتها ، إن تمكنت احراز ذلك ، وهذا الفارق متوفر تماماً في الشكل ، أما المضمون ليس كما يتصور البعض ، للأسف ، فالبنية التربوية واحدة ، وأنماط السلوك متقاربة ، قد سماها بعض الدارسين للمجتمعات ، بأصحاب السيكولوجيات المقهورة التى تُقهر من الصغر بالبيوت والمدارس والأماكن العمل حتى تتوسع في نهاية الأمر عند الأنظمة لتكتمل عملية الإتمام والثبات ، فانعدام العدالة والظلم وهضم الحقوق وإهدار الكرامة تجعل من أصابهم بذلك أن يحملوا ثقافة القهر ، وأعرف كم هو قاسي ومثير للغثيان عندما اسّتحضر ذَاكرة الأكثرية عند الصغر ، لأضرب مثل ، مما يتوجب فوراً الاعتذار من أنفسنا كوننا جاء حظنا أن نولد في مثل هذه المجتمعات التى لا يُراعى بها حقوق ولا ما يحزنون ، فكيف لمجرد من ارتكب خطئاً في الصغر أن يكون خارج دائرة القهر ما دام عوقب لحد الانتقام ، فهناك من يُفرّغ قَهّر العقود بولده لمجرد اسقط كوب الشاي على سجادة الأرض ، وحوّل زوجته التى أخذت من جهد أهلها أيام وليالي كي يخرجوا منها امرأة فاضلة ، إلى خادمة داخل زنزانته الشبيهة بزنزانة الأنظمة التى طالما حفرت المسكينة حفرة ، معتقدةً بأن والسائل التعليمية التى ظفرت بها سابقاً هي أشبه بالأسلحة المدخرة إلى تستحضر في وقت عصيّب ، قادرة على تخليصها من أي أزمات ، لتجد نفسها متورطة بزنزانة أضيق وأشد صقيعاً وقهراً مما كانت عليه .
ليس مدهشاً اطلاقاً بأن المجتمعات قادرة على شن حروب ، تبدأ من الكلمة القاتلة تنتهي ، إن أمكن ذلك ، إلى الذبح من الوريد إلى توأمه ، ومن الراسخ تماماً بأن الحال لا يتسع في هذه المساحة الشاسعة مكاناً لمن أمتاز بالوسامة أو حتى الشجاعة أو من هجع الإبداع في نخاعه ، فهو يعاني من الجهات الأربع لحد تدفعه المجتمعات إلى ذلك الاتجاه الخامس التى تضطره الوقائع التوجه بكل ثقة نحو العزلة تجنباً للوباء أو يتنازل بطريقة ما عن ما يملك من صفات كي يرضي من هو جاهل أو قبيح أو جبان ، من عبء النقص الذي يُسيطر على تشوهاتهم الداخلية ، طالما حضور المميَز ، يُذكر القبيح بقباحته وجاهل بجهله والجبان بجبنه .
عندما يردد أغلبية الشعب التونسي وعلى وجه الخصوص الإناث منهم ، عبارة تُستحضر من الذاكرة ، كُلما أصرّ موقف أن يستوقفني بفعلة صاحبه ، كأنها أسطوانة تنطلق نحو أذني ، تكرر ، ( جيّت نغربل في صحابي ما بقالي غير غربالي ) وهذه الحقيقة قد تكون عصية الهضم في ذهنية البعض أو قد يرها البعض تعميم ، إلا أنها تلامس واقعَّ المقهورين ، المهدورة طاقاتهم من خلال استنفاذ أوقاتهم بوضع عصى بدواليب الآخرين ، لكن هناك من أصابه عقاب مؤلم كون اجتمعت فيه الصفات الثلاثة ، الوسامة والإبداع والشجاعة ، مقابل اجتمعت ضده جميع الفئات المهدورة طاقاتها ، رغم معرفتنا بصعوبة اجتماعها وكُرّهها بعضها لبعض ، إلا أنهم يتحالفوا في مثل هذه الحالات كي يفرغوا ما تراكم من عُقدّ مركبة ، التى تحتاج إلى مهارة من نوع خاص حتى يغوص المرء داخل حاملها بهدف استقراء حجم السموم التى يمكن أن تصدر من حين إلى الأخر.
خطورة هذه المجتمعات ، أنها واقعة بين الاستعمار المتحكم بها عن طريق العولمة والاستقلال الشكلي المستغرق في تفاصيل النشيد الوطني والسجاد الأحمر وإلّقاء التحية وترصيع الصدور بالنياشين هي في حقيقتها أشبه بأغطية الزجاجات الفارغة التى جُمعت بعد ما الّقاها مستخدموها على قارعة الطريق لتختلط مع الأفكار الباحثة عمن يلتقطها ، كونها اُسقطت ممن لا يعى قيمتها ، فأصابها الكسل وعدم الإنتاج وباتت طيلة الوقت خالية الوفاض ، شاغلها الشاغل الثرثرة ، باعتماد على قاموس لا يتجاوز ال 20 مفردة في أحسن حال ويتناقص لحد التلعثم ، حيث ، توغل الفشل في حياة هذه الفئات ، لهذا يتكرر تناول المواضيع المبنية على مراقبة السلبيات ، لا غيرها ، فيُلاحظ حدة تطرّفها الذي يصل إلى انتقاد الهواء إن لم تجد من الإنس انتقاده ، لدرجة ، يصعب العيش فيها لمن قرر الخروج خارج السرب ويغرد بمفرده ، وقد تكون العزلة هذه الأيام غير كافية كي تُجنب المرء الوباء ، كون الثرثرة تمكنت التسلل من خلال التلفاز والإذاعة والبرامج الأشبه بالّصبحيات ، لا تضيف إلى مشاهديِها غير الغباء المضاعف كون مقدميِها عدمي الكفاءة ومنطفئ الموهبة ، ناهيك لمن يقف وراءهم من ملقنين يترجموا أجندات تجهيلية على مدار الساعة .
لكي يدافع المميز عن استمراره ويحتفظ بما يمتلك ، ما من مفر إلا أن يؤطرها بطاقية الإخفاء ، وهذا ممكن ، عند الشجاع و المبدع ، أن يسلكا طرق معينة يتواروا بأعمالهم عن أعيين أصحاب السيكولوجيات المقهورة ، لكن المسالة لدى الوسيم تبقى معلقة لأنها معرضة لانتهاك ، معقدة ، بل نهايتها مأساوية ، إذ ، قرر ان يرّضي هؤلاء ، كون ارضائهم يصل إلى أن يشترطوا بمعاقبته عن طريق جلب زجاجة من حامض النيتريك ، ماء النار لكي يغسل وجهه فيها في كل صباح ، إذاً هي مجتمعات رافضة على الاطلاق تقديم الاعتراف لمن هو مميز حقاً ، إلا بصيغة واحدة ، عندما يأتي الاعتراف من الخارج التى هي بالأصل مستسلمة تماماً له ثقافياً وحضارياً لأنها تعتبره لا ينطق عن الهوى بقدر ما ينطق عن معرفة تفتقدها هي .
والسلام
كاتب عربي