كورونا في الدول العشوائية، البرازيل مثالا
تاريخ النشر : 2020-06-06 14:37

لليوم الثاني، الخميس 4 يونيو 2020، تفجع البرازيل برقم قياسي جديد من الوفيات الناجمة عن مرض كوفيد-19 الذي يسببه فيروس كورونا ليفوق ما سببه نظيره في إيطاليا بعدما سجلت وزارة الصحة 1,437 حالة في الساعات الأربع والعشرين الماضية و30,925 إصابة جديدة.

كما صعدت البرازيل للمرتبة الثالثة عالميا، بشكل مفاجئ،
خلف كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، في عدد الوفيات جراء كورونا، بعد أن ارتفع اجمالي عدد الوفيات حتى 4 يونيو 2020 إلى 34,039، وباتت المقابر عاجزة عن استقبال الموتى للدفن، وتخطط السلطات لحرق الجثث. حيث يتضاعف عدد الوفيات في البرازيل كل أسبوعين تقريباً، مقارنة بحوالي كل شهرين في المملكة المتحدة وأربعة أشهر في فرنسا وخمسة أشهر في إيطاليا.

لقد ارتفع اجمالي عدد المصابين في البرازيل ووصل إلى أكثر من نصف مليون حالة، 616 ألف حالة حسب موقع corona worldmeters، غير أن جامعة ساو باولوUSP( Universidade de São Paulo )) وهي جامعة حكومية فيدرالية، وتعد من أكبر الجامعات للتعليم العالي وثالث أكبر جامعة في أمريكيا اللاتينية والرابعة والتسعون من بين كل جامعات العالم تقدر ان عدد الإصابات الحقيقي ستة اضعاف العدد المعلن من وزارة الصحة بشكل رسمي .. وتعزو ذلك إلى عدم إجراء السلطات ما يكفي من الفحوصات المخبرية لكشف العدد الحقيقي من المصابين.

يصل عدد سكان البرازيل إلى 212 مليون نسمة حسب احصائيات 2019، ومساحتها 8.5 مليون كيلومتر مربع. تعاني البرازيل من أزمة اقتصادية منذ سنوات حيث وصلت نسبة البطالة إلى 13% ونسبة الفقر في ازدياد مستمر. فبحسب إحصائيات من عام 2017 يعيش 50 مليون برازيلي بأقل من 5.5 دولار أمريكي يوميا، وهم يعتبرون رسميا تحت خط الفقر. كما أن هناك 15 مليون برازيلي لا يملكون سوى 1.9 دولار أمريكي يوميا للعيش.

يعد المناخ في البرازيل استوائيا، ومتوسط درجة الحرارة السنوي 22.8 درجة مئوية ومتوسط هطول الأمطار هناك 187 ملم، المناخ حار جدًا، الشهر الأكثر جفافًا يونيو ومعظم هطول الأمطار يكون في فبراير.

لقد بات النظام الصحي في الولايتين الأكثر تضرّراً بالوباء، وهما ساو باولو (حوالى 8,000 وفاة من أصل حوالي 120 ألف إصابة، بمعدل وفاة من بين المصابين 6.7%)، وريو دي جانيرو (حوالى 5,700 وفاة من أصل أكثر من 56 ألف إصابة)، بمعدل وفاة بين المصابين 10.2%، على وشك الانهيار وكذلك الحال في عدد من ولايات الشمال والشمال الشرقي البرازيلي.

ان انتشار وباء كورونا في البرازيل يترافق مع انتشار الفقر والبطالة وتجارة المخدرات والفوضى السياسية، في ظل الاتهامات التي يوجهها الرئيس البرازيلي الأسبق لولا دا سيلفا عن تخوفه من "إبادة" في بلاده بسبب رفض الرئيس الحالي جايير بولسونارو إجراءات الحجر من أجل الحد من انتشار فيروس كورونا المستجد.

بينما كان العالم بأسره يفرض العزل الاجتماعي والحجر الصحي رفضت البرازيل، مثل باقي دول أمريكيا اللاتينية، الغاء موسم الكرنفالات التي تقام في الثلث الأخير من شباط/ فبراير من كل عام ويشارك بها عشرات الملايين من مختلف دول العالم، حيث ظهرت أول إصابة في ساوباولو في 26 من فبراير/شباط لمواطن برازيلي عاد إلى بلاده حاملا الفيروس من أوروبا، شارك في احتفالات الكرنفال مع عدد كبير من أفراد عائلته. رغم ذلك استمرت السلطات تقول إن الوضع تحت السيطرة وإن استعداداتها كافية.

منذ تلك اللحظة اختلف المشهد في البرازيل والقارة، وسريعا جدا انتشر الفيروس في كافة ولايات البلاد لتصبح البرازيل مع مطلع شهر مايو/أيار، أي خلال شهرين فقط، واحدة من أكثر الدول إصابة بالفيروس وتسجيلا للوفيات في العالم وتسبق الصين مصدر الوباء.

وبالتزامن مع وصول الفيروس إلى البرازيل، كانت هناك دعوات لمظاهرات سياسية قسم منها مؤيد للرئيس، وقسم آخر معارض له.

لقد تواصل الاستخفاف بالمرض رغم تواصل الانتشار السريع، ووصف الرئيس البرازيلي الفيروس بـ "الزكام البسيط"، وهاجم بشدة اجراءات العزل التي اتخذتها بعض الولايات ووصفها "بالجريمة بحق الاقتصاد"، ومن هنا بدأت سلسلة من الخلافات الحادة حول هذه الإجراءات.

يقول أخصائي علم الأمراض والأوبئة الطبيب البرازيلي ذو الأصل العربي الدكتور بلال البكري في حديث خاص مع الجزيرة نت "استخفاف الرئيس بولسونارو بالفيروس واستهزائه به في غير موضع، ومخالفته لإجراءات الوقاية ومهاجمة الحكام على تنفيذها أثر بشكل بالغ في انتشار الفيروس".

وأضاف أن استخفاف مؤيدي الرئيس بالفيروس والإجراءات قلل من نسب الالتزام، خصوصا في ظل تأييد الكنائس الإنجيلية لهذا الطرح وتأثيرها بالمجتمع أيضا.

ويتابع البكري "زاد من حدة الأزمة إقالة الرئيس لوزير الصحة البرازيلي الذي كان قد حذر من الوصول إلى مرحلة الخطر في حال عدم تطبيق الإجراءات الوقائية، في ذروة أزمة انتشار الفيروس، رغم شهادة المتخصصين بالأداء المتميز للوزير، الأمر الذي شكّل صدمة للبرازيليين وأثر أيضا في إضعاف إجراءات مكافحة الفيروس وزيادة انتشاره". كما استقال وزير صحة ثاني، الذي عين قبل أسابيع بقرار من الرئيس جايير بولسونارو الذي كان قد أقال سلفه، بسبب خلافات حول إدارة أزمة كوفيد-19، واستخدام دواء كلوروكين في العلاج بسبب الآثار الجانبية الخطيرة التي تظهر نتيجة استخدامه.

ان الخلافات السياسية خاصة مع حكام الولايات ووزيري الصحة التي صنعها الرئيس في ذروة الأزمة الصحية وعدم اكتراثه بصحة المواطنين واستهزائه بالمرض، بل ونزوله بنفسه إلى الشوارع دون اتخاذ إجراءات السلامة، كان أحد أسباب انتشار الوباء وسرعة تفشيه.

وحتى هذه اللحظة ما زال الرئيس البرازيلي يُصر على الدعوة لعودة الحياة إلى طبيعتها، وتطبيق نظام العزل العمودي بدلا عن الأفقي، وهو عزل كبار السن والمرضى ومن هم بدائرة الخطر فقط وعودة الحياة والعمل لباقي السكان للحفاظ على الاقتصاد والوظائف مدعيا أن "70% سيصابون بالفيروس ولا مهرب من ذلك فلماذا الانتظار؟".

وقد أوضحت الدراسات تراجع نسبة الالتزام بالحجر من قبل المواطنين من 70% مع بدء الأزمة إلى أقل من 50%؜ في ساوباولو وحدها بعد تصريحات الرئيس.

غير أن استمرار منحنى الإصابات والوفيات بالتصاعد بشدة في البرازيل ما زال يمنع حكام الولايات من تخفيف إجراءات العزل والحجر، خصوصا في ظل انهيار النظام الصحي في عدد من المدن والولايات، خاصة مع امتلاء الأسرة في غرف الإنعاش في ولايات كريو دي جانيرو وسيارا والأمازون، والارتفاع الشديد في عدد الإصابات والوفيات اليومي، مما أدى لفتح مقابر جماعية في عاصمة الأمازون، وآلاف القبور في ساوباولو وغيرها.

كل ذلك يجري في ظل إعلان وزارة الصحة الصريح بأن الأرقام المعلنة للإصابات والوفيات لا تعكس الواقع وتقل عنه بكثير نظرا لعدم توفر الفحوصات للعامة بعد.

الدول والشعوب العشوائية لا تعاني فقط من الانقسام السياسي والفقر والبطالة والفوضى التي تهيمن على مختلف مناحي الحياة بل تعاني أيضا من واقع اجتماعي راسخ وثقافة عميقة سائدة تجعل من إمكانية تطبيق سياسة التباعد الاجتماعي والالتزام بالنظافة العامة ولبس الكمامات أقرب إلى المستحيل.

رغم كل ذلك فإنه من الهام استيعاب باقي الدول العشوائية في العالم والمنطقة لدرس البرازيل القاسي، ومن الضرورة والهام تحييد السياسة والدين عن الوباء وإسناد الأمر لأهله من العلماء والمختصين؟!

وقبل أن نختم لابد من سؤال لأصحاب نظرية المؤامرة، عن رايهم للوضع الوبائي في البرازيل؟!

السؤال الاخير هل بعض دول المنطقة بعيدة عن مثل هذا المشهد الكارثي في البرازيل؟!